تقع غزة عسكرياً على مفرق حربين مشتعلتين؛ الأولى في الشمال حيث التوتر بين (إسرائيل) وأمريكا من جهة، وحزب الله وإيران من الجهة الأخرى، والثانية في الجنوب حيث المواجهات بين تركيا وحلفائها في طرابلس من جهة، واللواء المتقاعد خليفة حفتر وحلفائه في مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا من جهة أخرى.
وتقع غزة سياسياً على حافة الحياد المعلن في الجبهتين، مع أنها عملياً في مركز الحدث في الشمال وفي الجنوب، فالوضع الطبيعي لغزة أن تكون في خندق المواجهة مع (إسرائيل)، والوضع العملي لـ(إسرائيل) أن تكون محراك الأحداث في المنطقة، فـ(إسرائيل) لا تنام على أذنها، وأمنها يمتد من حدود باكستان شرقاً، وحتى موريتانيا غرباً، ومن تركيا في الشمال وحتى إثيوبيا في الجنوب، وهي عين لا تغفل عن كل قوة صاعدة، وعن كل تحالفات تتشكل في المنطقة، فهذه الدولة تراقب، وتتحفز، وتتدخل، وتتآمر، وهي في حراك لو توقف لحظة لداستها الأيام، ومحقها الزمن.
وتدرك غزة أهميتها لإيران في هذه المرحلة التي تحتاج فيها إيران إلى حليف سني، يبدد الخلاف بين السنة والشيعة، وتدرك غزة أهميتها لتركيا في هذه المرحلة التي تحتاج فيها تركيا إلى الولوج إلى ضمير الأمة العربية، ولا أضمن من بوابة غزة للدخول إلى قلب الأمة العربية، وفي الوقت نفسه تدرك جمهورية مصر أهمية غزة لتحقيق التهدئة على حدودها الشرقية في هذه المرحلة التي تخوض فيها حرباً شرسة على حدودها الغربية.
غزة التي تراقب الأحداث من حولها باهتمام تدرك أنها الأكثر تأثراً بمجرياتها، وستنعكس الأحداث على وجودها، وعلى مجمل القضية الفلسطينية، وقد تكون المسألة بالنسبة لغزة حياة أو موتا، فأي متغيرات ميدانية في المنطقة الشمالية ستقض مضاجع غزة، وتؤرق نومها، وأي متغيرات ميدانية يسيطر فيها اللواء حفتر على طرابلس، أو تنتصر فيها طرابلس، وتتمدد إلى الشرق، ستنعكس بشكل أو بآخر على وجود المقاومة في غزة، وللتذكر فقد استفادت المقاومة في غزة من السلاح والمعدات العابرة للصحراء الليبية وصحراء مصر الغربية والشرقية، قبل سيطرة حفتر على شرق ليبيا.
المتغيرات الإقليمية في المنطقة حادة ومدببة، والتداخلات والتشابكات صعبة ومعقدة، ونتائج الأحداث التي تجري في محيط فلسطين لا تقل أهمية عن نتائج الحرب العالمية الأولى التي أخرجت تركيا من المنطقة، وأدخلت إليها الاستعمار الفرنسي والبريطاني الذي مهد الأرض لوعد بلفور، وفرش الطرق سلامة وأمناً تحت أقدام العصابات اليهودية التي أقامت دولة على أرض فلسطين؛ دولة يتجاوز أمنها حدود أرض فلسطين، لذلك فإن هذه الدولة معنية بفرض الهدوء على أرض فلسطين ككل في هذه المرحلة، كي يتسنى لها ترتيب الساحات القريبة والبعيدة وفق الأطماع الإستراتيجية.
إن بسط الهدوء والسكينة على أرض غزة مهم جداً للسياسة الإسرائيلية، لأن أي تصعيد مع غزة قد يعكر صفو المخططات الإسرائيلية الإستراتيجية، ويشوش على مجرى الاشتباكات البعيدة عن حدود دولة الكيان، والقريبة من مصالحها، وهذا ما يجب أن تستثمره غزة في هذه المرحلة، وذلك بالحفاظ على سلاح المقاومة من جهة، والتلويح باستخدامه من جهة أخرى، سلاح المقاومة هو ورقة القوة التي ستمكن غزة من استدعاء القضية الفلسطينية من دواليب الانتظار، فالأيام القادمة تحمل الكثير من الأحداث والأخبار، وستكون الحاجة فيها إلى سلاح المقاومة أكثر بكثير من الحاجة إليه لفك الحصار.