في خضم ثقافة صراع الحضارات التي أجملها "صامويل هنتنجتون" ورأى أن ما بعد الحرب الباردة ستكون الاختلافات الثقافية المحرّك الرئيس للنزاعات بين البشر، وكان هذا في سياق الردّ على "فرانسيس فوكوياما" صاحب مقولة نهاية التاريخ الذي رأى أن الديمقراطية الليبرالية ستحسم الأمر وتكون الشكل الغالب على الأنظمة المعاصرة.
ومن الواضح أيضًا أن هذه الأفكار لم تعد حبيسة الجامعات والبحث الأكاديمي بل تسربت إلى السياسة الغربية، وعقلية النخب ذات الأثر الكبير على هذه السياسات، وتحولت إلى طرق وأدوات لبسط النفوذ الغربي، خاصة على الدول والشعوب الناقصة السيادة والمستلبة السيادة السياسية والفاقدة الاستقلال، وعالمنا العربي أحسن مثال.
فهم لا يرون التعدد الثقافي والتنوع الكبير الذي يسع العالم، ولا يعترفون بأن شعوب العالم أجمع بالإمكان أن يسعهم حوار الحضارات بدل صدامها وصراعها على مبدأ "إنا جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"، ولا يرون أنّ من طبيعة الحياة البشرية الاختلاف والتنوع "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، وهذا هو واقع الناس وينسجم مع حوار الحضارات وقيام العلاقات الدولية على مبدأ هذا الحوار وحفظ المصالح البشرية العامة ورعاية المصالح المشتركة.
فالاختلاف مع مخرجات سيداو وكل إفرازات المنتديات والمؤتمرات التي تهيمن عليها دول ثقافة "هنتنجتون وفوكوياما" هو اختلاف منهجي، وليس تفصيليًّا نتفق فيه مع أشياء ونختلف مع أشياء أخرى، هي قائمة على شطب وإلغاء هويات الآخرين وبنيانهم الثقافي، قائمة على هيمنة النموذج الغربي الليبرالي وفرضه وطغيانه، وليس من وراء ذلك هدف إلا الوجه الاستعماري المرتبط تمامًا بالوجهة العامة للدول الاستكبارية في السيطرة وبسط النفوذ وفتح الأسواق ونهب الثروات والمقدرات، والطريق السهل لكل هذا هو هذه الهيمنة بهدم مكونات الآخرين وبنيانهم الثقافي ونقضها من أساسها، لتصبح جاهزة للابتلاع في بطن الحوت الاستعماري، الذي يريد أن يلتهم الجميع ويذيبه بعصارته السوداء.
ولتسويق هذه الوجهة الاستعمارية لابدّ من تغليفها بصورة حضارية تدّعي الانتصار للمرأة تارة، وتارة للقيم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وتارة أخرى لحقوق الإنسان والأقليّات واحترام الإثنيات والتعدد المذهبي والديني، وتخفي في طيات ذلك هذه العربدة الثقافية التي تريد أن تنال من ثقافة الآخرين وتريد نقضها من أساسها.
والمطلوب هو ألا نتيه في تفاصيلهم بل ننتبه إلى منهجية الأمر، ورفضه منهجيًّا ومبدئيًّا، على قاعدة أن لدينا هويتنا المستقلة ولدينا مرجعياتنا الفكرية والتشريعية، وأي تطوير أو تجديد يأتي من سياقنا لا من سياقات الآخرين.