عدالة قضيتهم وحقهم في أراضيهم المحتلة منذ عام 1948، يدفعان الجماهير الفلسطينية في قطاع غزة للمشاركة المستمرة بمسيرات العودة وكسر الحصار.
ترقب روحا ثائرة في قلوب المشاركين بفعاليات الجمعة الخامسة والثمانين لمسيرات العودة، بمخيم "ملكة" شرق مدينة غزة، الذين وصلوا بالحافلات، مع بدء الفقرات الفنية، ثم هروع سيارات الإسعاف والممرضين للتعامل مع الإصابات، وأفراد من الشرطة يحافظون على النظام. صحيفة "فلسطين" كانت حاضرة بين المتظاهرين ترصد لقطات ومشاهد متعددة.
بمسرحية فنية.. "شاهين" يحارب الاستيطان والتهويد
"يا خليل.. رامي اللي طعنك واللي خانك"؛ على منصة مهرجان مسيرة العودة يؤدي الفنان باسل شاهين مسرحية تتحدث عن شخصية تدعى "رامي" تشبهت بدور دولة الاحتلال، يحاول التقرب من أحد أبناء الشعب الفلسطيني في سبيل سرقة بيته وأرضه، كما فعل آباء وأجداد "رامي" من قبل بالحقوق الفلسطينية، وتسببوا في موت أقارب خليل بمجزرة الحرم الإبراهيمي.
شاهين الذي يرتدي عباءة وحطة يرفع هامتها عقال أسمر، يتكئ على عكاز ويقوم بدور الأب، وهو يخاطب ابنه خليل من على خشبة المسرح: "حكيتلك مين رامي وما رديت علي".. ولا يزال يعاتبه: "رامي اللي قاعد بهود الخليل وبسرق بيوتها بيت بيت".
"عرفت مين رامي؟".. يسأل ويجيب بنفسه: "رامي اللي منع صوت الأذان، واللي قتل أخوك بالحرم، وسبب كل مصايبنا، واللي سرق بترول الخليج".
وسط اندماج مئات المشاركين بمسيرات العودة مع فقرات المسرحية، يرد "خليل" الذي يحاول وقف نزيف طعنة وجهها له رامي في خاصرته بيده، جاثيا على قدميه أمام والده طالبا منه السماح، لكن الأخير يرفض: "ما بسمحكاش ولا برضى عنك ولا بحط إيدي بإيدك، إلا لما تلعن رامي، لأنه مغضوب عليه من ربنا، وتقف بوجهه وترفع سلاحك أمامه مش بوجه إخوتك وأولاد عمك".
قبل أن يسدل الستار على نهاية المسرحية، يخاطب شاهين الحضور: "هي خليل ما عرفش مين رامي إلا لما طعنه، وسيّل دمه.. إن شاء الله هالعرب يعرفوا مين رامي!".
بعد أن التقط أنفاسه، بجانب منصة المهرجان، يتحدث شاهين لصحيفة "فلسطين" عن المسرحية قائلا: "لا يخفى على أحد دور الفن الهادف في طرح القضايا الوطنية، وأكبرها التوسع الاستيطاني واحتلال الأراضي، خاصة في مدينة الخليل التي تحمل جمعة مسيرات العودة اسمها (الخليل عصية على التهويد)".
وأضاف: "كفنانين وجب علينا أن نوصل رسالة بأسلوب مسرحي، بأن نعرّف بطريقة مسرحية من هو الاحتلال الذي لا يترك مجالا إلا ويدخله في سبيل تهويد المدن الفلسطينية وخاصة مدينة الخليل".
وزاد: "جئنا كذلك لنوصل رسالة لأهل الخليل أن غزة وفنانيها معكم".
المحرر "أبو سرحان" ينشد الحنين إلى "العبيدية"
"بلادي، غربتي طالت وحالت دوننا الأيام، دموع العين قد سالت وروت كربتي الآلام"، بهذه الكلمات تروي عينا الأسير المحرر عامر أبو سرحان، المبعد إلى قطاع غزة، وهو يقف على مقربة من السياج الفاصل شرق غزة، حنينه إلى قرية "العبيدية" شمال شرق بيت لحم بالضفة الغربية المحتلة.
ثمانية أعوام من عمر إبعاده إلى غزة عام 2011، بعد الإفراج عنه في صفقة "وفاء الأحرار"، هي من عمر ابنه عمر الذي جاء يرافقه في هذه الجمعة من مسيرات العودة، ولا يزال الحنين يشده إلى أهله. تلك التنهيدة التي خرجت من حنجرته تروي مائة حكاية من الشوق، قائلاً: "لقد خرجنا من السجن وهذه نعمة، منا من أُبعد إلى قطر أو تركيا، ولنا الشرف أن أُبعدنا إلى غزة".
"لكن بعد ثماني سنوات هنا نشعر بالغربة والبعد عن أهلنا".. يقول وعيناه ترسم شوقا إلى "العبيدية": "رزقت بأربعة أطفال (3 أولاد وبنت) وأصبح لنا عائلة، وما زلنا محرومين من الجد والجدة، نتجرع مرارة أن أبناءنا في سجن، نعيش عزلا انفراديا بحيث لا نجد من يسليهم أو يلعب معهم من عائلتهم".
كل وسائل التواصل والاتصال، لا تغني عن لحظة عناق واحدة ينتظرها المحرر أبو سرحان، لمعانقة والديه، رغم حفاوة الاستقبال من أهالي قطاع غزة حتى اليوم.
و"أبو سرحان" كان قد أسره الاحتلال عام 1990 وحكم عليه بالسجن ثلاثة مؤبدات و20 عاما، أمضى في سجون الاحتلال 20 عاما، وأفرج عنه في صفقة "وفاء الأحرار".
يدخل إلى السجن، لكن هذه المرة عبر بوابة الذكريات: "الشيء الذي لا أنساه، هي حبة الدواء التي يحرم منها الأسير المريض، رغم ما يعانيه من قهر وألم، 30 شهرا أمضيتها في زنازين العزل الانفرادي في سجن الرملة محفورة في الذاكرة، كأصعب فترة اعتقال، طوال تلك المدة كنت بزنزانة لا تزيد مساحتها عن مترين مربعين، لا تتسلل إليها أشعة الشمس".
استهداف الاحتلال للأسرى، حسبما ذكر المحرر أبو سرحان، يهدف لكسر إرادتهم وجعل هذا النموذج عبئا على الشعب الفلسطيني، مستدركا "لكن إرادة الأسرى صلبة، استطاعوا خلق كينونة خاصة بهم داخل السجون، ووقفوا موحدين في وجه إدارة السجون، وهم يعيشون بمواجهة مستمرة على مدار الساعة".
خليل الرحمن.. إليك الحنين
الساعة الرابعة وعشرون دقيقة، الشمس تسحب أشعتها تدريجيا، والمتظاهرون بدؤوا بالانسحاب من مخيم ملكة، عبير داود هي الأخرى تسير عائدة من الخطوط الأمامية ممسكة علم فلسطين وتتوشح بالكوفية التي تلتف حول رقبتها، وتمسك ملصقا بيدها مكتوب فيه: "خليل الرحمن.. إليك الحنين.. رجال سطروا البطولات ولن تهودين".
لا تترك عبير جمعة إلا وتشارك في مسيرات العودة، فرغم أن حافلة نقل المتظاهرين فاتتها أمس، إلا أن هذه السيدة التي تسكن حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، استقلت سيارة أجرة، كي لا تفوتها الجمعة الخامسة والثمانين للمسيرات.
تقول: "جئت كي نؤكد جميعا أن الخليل لن تهود لأنها عربية إسلامية، يكفي أن بها الحرم الإبراهيمي كدليل على هويتها".
ومن على مقربة من السياج الفاصل، تلتفت إلى الخلف مشيرة بيدها نحو الشمال: "انظر إلى تلك الجبال البعيدة، هذه جبال الخليل، كلما نراها نشعر بالحنين إليها، نتمنى أن يزول السياج الذي يفرقنا، ونستطيع الوصول إلى تلك الجبال، وإلى الضفة الغربية".