عندما كانت تخرج علينا بعض قيادات السلطة الفلسطينية، وتنكر وجود التنسيق الأمني، كنا نصدّق؛ لأننا نثق في قياداتنا الوطنية، ومن لا يصدّق كان في مرحلة التشكيك، وليس الجزم، فربما التجاذبات السياسية هي ما تدفع حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وبعض النخب الفلسطينية، لاتهام السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني، وكأنه عار على من يمارسه، وخيانة للوطن ولدماء الشهداء.
وبدأت الصورة تتكشف رويداً رويداً، فبعد اغتيال الشهيد عضو المجلس الثوري لحركة فتح، زياد أبو عين، بدأ الرأي العام يستمع لأحاديث مختلفة بعض الشيء، وهي مطالبة قيادات وازنة في السلطة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني. تلك الشخصيات هي من أنكرت في السابق وجود التنسيق الأمني، وقالت: "ما يجري هو تنسيق مدني حياتي لتسيير شؤون الناس، مثل قضايا التحويلات العلاجية والمعابر والحواجز والعمال وبطاقات الهوية.. إلى آخره من القضايا التي لا يعترض عليها أحد من أبناء الشعب الفلسطيني. وحتى حركة حماس تحدثت عن ذلك في خطاب نيل الثقة للحكومة الفلسطينية العاشرة التي شكلتها حماس، حيث قال رئيسها إسماعيل هنية إنه يسمح لوزرائه بالتعامل مع نظرائهم الإسرائيليين في القضايا والشؤون المدنية.
ثم صدر قرار من القيادة الفلسطينية يوم 14/12/2014م، والذي ربط إعادة النظر في شكل العلاقة مع الاحتلال (التنسيق الأمني) بفشل كل الخطوات السياسية والقانونية، سواء التوجه إلى مجلس الأمن للاعتراف بمشروع يقضي بإنهاء الاحتلال، أو الانضمام للمنظمات الدولية. إلا أن صدر قرار المجلس المركزي يوم 5/3/2015م بوقف التنسيق الأمني.
هذا خير دليل على أن التنسيق الأمني ليس قضية صغيرة بسيطة، كما حاول بعضهم تصويرها، وإنما هي تبادل معلومات وأدوار أمنية لمحاربة الإرهاب والإرهابيين. والمقصود بموضوع الإرهاب، طبعا، المقاومة الفلسطينية ومن يؤمن بها كالشهيد باسل الأعرج. وتدلل على أن التنسيق الأمني هو جاسوسية مشروعة مع الاحتلال منظمة باتفاقيات ثنائية ودولية، لعل أهمها وثيقة الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير وإسحاق رابين عام 1993، واتفاق أوسلو 1994، واتفاق طابا 1995.
ورهن المجتمع الدولي وإسرائيل مساعداته ومنحه التي يقدمها للسلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني. وبذلك، أصبحت رواتب موظفي السلطة التي تشكل أحد أهم مرتكزات ديمومتها واستمراريتها مرهونة بمحاربة الإرهاب والإرهابيين. وبذلك، نستطيع أن نقرأ، سياسياً، سبب قرار القيادة الفلسطينية، وفي مقدمتها الرئيس محمود عباس، بالحفاظ على التنسيق الأمني، وتشبيهه بأنه مقدس، واستخدامه ورقة حسم أخيرة في قرار القيادة الأخير، يكشف حجم التنسيق الأمني وأهميته بالنسبة للاحتلال، ويؤكد صوابية من كان يهاجم التنسيق الأمني، والذي أعرفه بأنه السلطة الفلسطينية. فإن توقفت عجلة هذا التنسيق، يتوقف قلب السلطة الفلسطينية عن النبض. وبعد لحظات، سيعلن عن وفاة الجنين المشوه الذي أنجبته اتفاقية أوسلو، لأن المال السياسي الغربي مرهون بعملية التنسيق الأمني.
وفي رؤية استشرافية حول إمكانية أن تتوقف السلطة الفلسطينية عن التنسيق الأمني، أقول: التنسيق الأمني لم ولن يمس، طالما استمر محدد المنفعة، والمصلحة الفردية، والتنظيمية، والجهوية، وغياب المؤسسة، هو المحدد الرئيس في صناعة القرار السياسي لدى قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.
ومن هنا، ينبغي العمل الجاد من القوى الحية في الشعب الفلسطيني، للضغط على الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية، لإجراء انتخابات عاجلة للمجلس الوطني والمجلس التشريعي والرئاسة، حتى تتجدد شرعية تلك المؤسسات، وتصبح المؤسسة هي من يصنع القرار وليس الفرد. وسيصب ذلك في مصلحة المشروع الوطني التحرري القائم على العودة والتحرير.