يسعى كثيرون من البشر أن يكونوا أصحاب كلمة مسموعة، وتأثير في من حولهم، وإن اختلفت شرائحهم وتعددت أعمارهم وتباينت ثقافاتهم، لكن الحقيقة أن عبر التاريخ قلائل هم المؤثرون والقادرون أن يصنعوا من كلماتهم تحولًا وتغيرًا بمن حولهم، ونسي أو تناسى الجميع أن مدلولات الكلمة عميقة، وترسم معالم طريق بدءًا من كلمة إيمان وكفر، وصولًا إلى كلمة نصح ورُشد، كلمة ناعمة دافئة إلى كلمة خشنة باردة، كلمة تحمل كل المعاني والقيم مغلفة بأحاسيس فياضة، إلى كلمةٍ بلا معانٍ، بأحاسيس ميتة، بلا اتجاه، عديمة القيم.
الكلمات -يا سادة- ليست حروفًا مرتبة وكلمات منمقة، بل الكلمات ما يخرج من القلب إلى القلب مخترقًا الصدر والإحساس ليرسو في وجدان منتظر حروفًا ممزوجة بمشاعر دافئة تستقر في قلب ظمآن إلى عيون لامعة وجفون ذابلة محبة.
وليس أجمل من كلمات الله وقرآنه الكريم حيث يكمن عبق الحروف ونسمات الكلمات لتزين قلبًا وعيونًا بحب من معين لا ينضب، و تأتي كلمات الحبيب المصطفى محمد ببصمته وكأنه يعيد للجسد روحها وللعيون نورها، حتى صحابته الكرام كانوا على دربه وخطاه، فهذا العباس (رضي الله عنه) حين سئل عن عمره وعمر الحبيب محمد قال: "هو أكبر مني ولكني ولدت قبله"، رغبة جارفة في رفع مقام الحبيب في كل لحظة وكلمة، في كل موقف وصورة، وهذا وزير هارون الرشيد يجيبه بلباقة وأدب جم حين سأله عن عصبة من الخيزران فأجابه بأنها مجموعة من الرماح، كي لا يذكر اسم أمه، وموقف آخر إذ رصد الخليفة مبلغ خمسمائة ليرة من الذهب لمن يتكلم كلامًا طيبًا، وفي يوم خرج مع حاشيته إلى الشارع فوجد عجوزًا طاعنًا في السن يحمل شجيرة زيتون، فسأله: "ماذا تصنع؟"، فقال يا أمير المؤمنين: "لقد زرع من قبلنا فأكلنا وأريد أن أغرس ليأكل مَن بَعدنا"، فأعجب بكلامه وقال: "أعطوه خمسمائة ليرة ذهبًا" كما وعد، فابتسم العجوز، لكن الخليفة سارعه بالسؤال عن سر الابتسامة فقال العجوز: "شجرتي أثمرت قبل أن تُزرع"، فقال الخليفة أعطوه مبلغًا آخر فابتسم العجوز ثانية، وتساءل الخليفة ثانية، فقال العجوز: "شجرة الزيتون تثمر مرة في العام وشجرتي تثمر مرتين"، فَهَّمَ الخليفةُ مغادرًا المكان، وحين سئل عن السر قال: "سيُفرغ خزينتنا ذاك الرجل"، كلمات طيبات وخبرة سنين ومعرفة طويلة زينة لسان ذلك العجوز، فترك وقعًا رائعًا على نفس الخليفة، فأغنت العجوز سنينًا بل عقودًا.
كثيرة هي المواقف والمشاهد التي تبني نفوسًا وتسند قلوبًا، لكن أكثر هي الكلمات التي تكسر قلوبًا وتحطم نفوسًا، لا لشيء إلا لغل في نفس أو غيرة قاتلة تسكن في قلب، فالقلب سر الرواية وعنوان الحكاية، وبين طياته صورة تنطق بحروف من ذهب أو كلمات تركها السامع حين ذهب.
فاحرص -صديقي القارئ- أن تكون كلماتك نابعة من قلب صادق، ولسان بالعذب ناطق، ائتساء بكلام الخالق وسيد المرسلين وصحابته الميامين.