أولى الإسلامُ اهتمامًا كبيرًا بالأسرة لكونها نواة المجتمع وصلاحها هو المعادل الموضوعي لصلاحه، وفسادها سيكون وبالًا على رأس الجميع، لذا نجد الإسلام وضع لنا ملاجئ كثيرة لضمان بقاء نقاء الأسرة، نلجأ إليها حين تصطدم أشرعة سفينة الأسرة بريح صرصر عاتية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد ذكر الله (عز وجل) في كتابه العزيز: "إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" (النساء 35).
من يتأمل الآية السابقة يلحظ أن مصطلح "التحكيم" هو بطل الآية ومقصودها وسيلةً لعلاج ما ظهر من مرض على سطح الأسرة، فيا ترى ما التحكيم؟، وما أهميته؟، وهل يصلح لأن يقوم مقام المحاكم؟
التحكيم من أهم الوسائل التي يستند إليها الناس في إرساء قواعد العدل بعد القضاء، فهو من أسهل وأقدم الطرق في فصل الخصومات، ويقوم على اتخاذ الخصمين برضاهما حاكمًا يفصل خصومتهما ودعواهما، ويسمى "محكمًا شرعيًّا" يحظى بإجازة من الجهات المختصة، فيتابع القضية بطريقة أفضل من الطرق المتبعة في المحاكم، إذ يعاين الطرفين ويذهب إلى مكان سكنهم، ويسأل ويتقصى الحقائق ولا يعتمد فقط على الورق والمستندات كما هو معروف في المحاكم، وهذا يساعد المحكم الشرعي على التعرف إلى الطرفين بكل أحوالهما ومعايشتهما حتى يكون حكمه أكثر دقًا وصوابًا.
ومن أبسط الأمثلة التي يحلها التحكيم الشرعي هو إنهاء مشكلة بين زوجين دون أن تنفق المرأة رغمًا عنها من عمرها ما يزيد على عامين وتعب نفسي ومال كثير في المحاكم، ثم لقسوة القانون تجبر على التنازل عن حقوقها مقابل الفكاك من زوج لا يتقي الله فيها، فمنذ البداية يكون التفاهم بينهما على تنازل كل منهما عن جزء من حقه.
وعن الحكمة من التحكيم الشرعي يذكر المحكم الشرعي صلاح الدينا في رسالة الماجستير التي عنونها بـ(ضوابط وإجراءات التحكيم الودي في ضوء الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي):
_الحكمة من مشروعية التحكيم ما يترتب على التحكيم من جلب المنافع ودرء المفاسد عن الناس؛ لقطف الثمار المترتبة عليه من الهدف الذي يسعى الشارع إلى تحقيقه بالفعل.
_التحكيم يقوم على فصل الخصومات وقطع المنازعات التي من شأنها أن تشيع العداوة والبغضاء، وفساد ذات البين، إذا ما تركت دون الفصل فيها بحكم.
_مصلحة القضاء في تخفيف العبء عنه بمصلحة الأفراد في رفع المشقة عنهم لطول مدة الحكم في المحاكم وقلة التكاليف مع توفير الجهد.
_التحكيم يحقق العدالة في إيصال الحق إلى أهله؛ ليسر إجراءاته وسرعة فصل الخصومات .
_التحكيم فيه روح الاعتدال، إذ إن القضاء فيه الهيبة والوقار، والوساطة فيها الترجي والشفاعة.
_يختزل الوقت والجهد ولا يكلف كثيرًا من المال، فربما خلال أقل من شهر تحل مشكلة استغرقت وقتًا وجهدًا ومالًا كثيرًا بين أروقة المحاكم.
يبقى واجبًا القول إن على المتخاصمين طرق باب هذا الملجأ، إن ألزمتهم الظروف ذلك.