(1)
قبل ثلاث سنوات مع ظهور طفرة تنظيم "داعش" على سطح الأحداث وبروزه في مواقع الإعلام؛ كتبت مقالًا من جزءين عن هذا التنظيم، بعنوان: "داعش من أين وإلى أين؟".
وذكرت في مطلع المقال: أن كثيرًا ما تطفو في ساحتنا العربية من غير مقدمات حالات وأحداث سياسية وظواهر مجتمعية وتشكيلات قتالية وجماعات مذهبية؛ فتحدث تفاعلات وارتدادات تلقي بآثارها على جنبات وأركان المشهد الإقليمي والدولي.
ولكن، سرعان ما يخبو أوار نارها ويذهب بريقها وينطفئ لهيبها؛ لتنزوي تاركة وراءها ندوبًا وآثارًا لا تدملها مديد الأيام، كما تترك علامات استفهام تستوضح الحقيقة؛ لتبيان الحق.
ولنا أن نتساءل: من أين جاءت تلك المكونات والتشكيلات والمجاميع؟، وما أريد لنا منها؟، ولماذا الدَّفع بها دون غيرها؟، وكيف ستؤدي دورها، وتفي بغرضها؟
وغالبًا قبل أن نمدَّ أيدينا لنطرق أبواب الإجابة عما شُرع لنا السؤال عنه نجد أنفسنا من جديد في دوَّامة هي أشرُّ وأنكى من سابقتها؛ فتزج بنا في عين العاصفة، وما إن نفلت أو تُفلتنا منهكين حتى تشغلنا التي تليها، وهكذا دواليك.
وبعد هذا الزمن المهم الذي يضيع على الأمة في صراعات مجنونة تحت عناوين مذهبية وأخرى طائفية يضع المنظر عمر عثمان المعروف بـ"أبي قتادة الفلسطيني" إجابات، كنا مدركيها من قبل، غير أنّ تصريحه بها يكشف ما كادت تخفيه (السوشيال ميديا أو فضاء الإعلام الجديد)، وقد انتقد ما أسماه "التيار الجهادي والعقل النجدي واستشرف مستقبله"، في مقابلة أجراها معه ونشرها تلميذه إسماعيل كلم (أبو محمود الفلسطيني) في أواخر الأسبوع الماضي.
وقد استهل في انتقاده شرح _وإن شئت فقل تبرير_ انغلاق ما وصفه بـ"التيار الجهادي" عن الأمة، وتجمده عن الذوبان فيها؛ فذكر أن التيار تميز (انغلق) عن الأمة بفعل مدرسة خاصة حين استخدم لفظ الموحدين، مثلًا، وهو لفظ إقصائي بامتياز.
(2)
وأشار إلى أن ذلك توافق مع تضييق أمني حال ما بين التيار والأمة والتيارات والجماعات الأخرى، وقد شبّه "التيار الجهادي" عند بعض بالطرق الصوفية من ناحية التجمد، وعدم الذوبان في المجتمع.
غير أنّه عاد وألقى باللائمة من وجهته على الجماعات والتيارات الأخرى التي لم يبرئها من أسباب ذلك الانغلاق الذي وصل إليه "التيار الجهادي"، يوم هربت بذاتها لاعتبارات أغلبها "مصلحية وإقصائية".
وهذا في الحقيقة واقع، ولكن الذي كان يجب أن يشير إليه الشيخ بشأن هروب الجماعات والتيارات الأخرى عن هذا التيار هو حالة الجنون التي انغمس فيها قطاع كبير من التيار الذي يصفه بالجهادي من الغلو والتنطع والمبالغة في التكفير، وعدم أهليته لتنزيل الأحكام الشرعية موضعها، وأنّ "الشرعيين" الذي يقودونه "حدثاء الأسنان" لا يفقهون تنزيل "كفر النوع" على "العين"، في حق المسلمين من أهل السنة أو من أصحاب المذاهب الأخرى.
بل إنّه ليكفِّر عمليًّا مخالفيه من التنظيمات الجهادية الأخرى بسبب الاختلاف معهم، ويستهين بالدماء، ويبالغ في قتل كل من خالفه من المسلمين.
وإن كان قد أشار بشكل صريح إلى هذا الأمر في معرض نقده لمن احتواهم "التيار الجهادي" ممن يحملون أفكار الغلاة، ويكفرون حماس، على سبيل المثال، وقد عدّ هذا بنصه "تدميرًا للمشروع الجهادي".
ثم لفت إلى أنّ "التيار الجهادي" سيشهد في المستقبل تحولات لم يفهمها الكثير من مشايخه وأبنائه، وذلك بعد أن فشل هذا التيار في تثوير الأمة مع قضيته، وإن كان يرى أنّ الجماعات الأخرى أشد فشلًا في تحقيق مقاصدها، لذا دعاها ألا تفرح بهذا النقد.
وفي نقطة من الأهمية تسليط الضوء عليها أشار في استشرافه لمستقبل هذا التيار (الجهادي) إلى "ضرب مفهوم الجماعة الأيديولوجية، وانهيارها أمام مشروع الأمة".
وهذا الذي ذهب إليه الناقد يؤكد _من وجهة نظري_ صوابية وسداد رؤية حماس في مواجهة غلاة الفكر المتطرف وهذا التيار وما أصاب فكرهم وممارستهم، وقد نحوا باتجاهات يثبت كل يوم خطؤها وتجافيها عن الحق ومجانبتها الصواب.
وذلك يوم تصدت حركة حماس ببرنامج تعبوي تربوي تصحيحي لمن وقع في شرَك هذه الأفكار الانغلاقية المتنطعة المجنونة، وقد أسمته "أمة واحدة".
وقبل أن ينهي الناقد (أبو قتادة) ذهب ببيان العاقبة لمن سيستكمل مشروع الأمة، فقال: "من يقدر على فهم الواقع الجديد".
بل ذكر أن ذلك الميراث بدأ بالانتقال فعلًا، "وأنّ معالم هذا التغيير قد بدأت، فمن فهمها استوعب حالة التغير، ولا يهمه إلا أنّ تتحقق مقاصد الأمة".
(3)
ولكن ما لم يلفت إليه الناقد المعاول التي أتت على بنيان التيار الجهادي، كما أرساه شيخه الأول عبد الله عزام فيما أسماه "جهاد المهاجر"، فبدأ التدمير الذاتي لهذا التيار حتى قبل أن يُغتال، وذلك مع بروز التيار الجهمي التكفيري، وقد بدؤوا بتكفير سيد قطب ولم ينتهوا حتى بتكفيرهم الشيخ عبد الله عزام نفسه.
وما بتّ أؤمن به يقينًا من زمنٍ ليس بالقصير _بعد أن تأكد لي في أكثر من واقعة وتصريح_ أن جهات أمنية تخدم أجندات سياسية ضد تطلعات الأمة؛ هي من تقف وراء هذا الذي حدث ويحدث في طلائع أمتنا.
وهذا ما كنت أشرت إليه في مقال "داعش من أين وإلى أين؟"، وقد تحدثت صراحة عما برعت به أجهزة مخابرات عالمية _وليس أبرع في ذلك من المخابرات الإنجليزية_ من تفتيت الأمم المستهدفة بالعبث في تركيباتها الديمغرافية، وضرب مكونها الوطني العام، عندها يُصبح الإخوان أعداء، وأكثر من ذلك عندما تربط مصالح جميع الفرقاء بعدوهم ومستهدفهم.
وما يمكن أن تقوم به هذه الأجهزة الأمنية فوق ما ذكرت من العبث بالفسيفساء المجتمعية أنّها تمتلك المهارة والقدرة على تخصيب مكونات جديدة (فرق أيديولوجيَّة وجماعات مصالح) من طريق مكاتبها الأمنية، وعملها الاستخباري القائم على القراءة الدقيقة للسمات الشخصية للأمة، وبما تتمايز به عن غيرها.
(4)
وإن كانت الظروف الموضوعية دعمت تسلسل صعود ظاهرة التطرف والانجراف نحو العنف الدموي المتوحش؛ فعند النظر إلى السياق الاجتماعي حيث الانفجار الديمغرافي والبطالة ومستوى التعليم وغيرها، والناحية السياسية حيث الاستبداد السياسي، وفشل الدولة الوطنية في التنمية والمواطنة وغير ذلك؛ نجد أنه كان لذلك ارتدادات قوية وأثر بالغ في تكوين هذه النتوءات الضارة.
وإن كانت تفردت "داعش" تَفَردًا قد لا يوجد له تفسير في مبلغ وحشيتها وفي تركيبتها التي تبدو مُلغَّزة ومُفاجئة؛ فإنّ العصابات الصهيونية على وحشيتها وتطرفها ومدى إجرامها _وقد صنف الكثير منها على أنها عصابات إرهابية_ بعد أن استكملت دورها في تحقيق مصالح "المستعمر" كوفئت جميعًا بدولة على أرض فلسطين سميت (إسرائيل)، في إشارة إلى البعد الديني والتاريخي لمن لا يستحق على هذه الأرض.
فهذا وغيره ما يمكن أن يفك ما هو مُلغّز من جماعات وتيارات ناتئة تبرز فجأة وتغور غورًا سريعًا، وهذا ما عُرفت به إنجلترا خلال تاريخها الاستعماري الأسود بسياسة "فرِّق تسُد".
ونلفت إلى أن تلك الأجهزة الأمنية عبر شبكاتها الممتدة في أصقاع المعمورة قد استطاعت إيجاد وكلاء معتمدين لديها في منطقتنا، يعملون لمصلحتها في حلة وطنية أو قومية أو ملكية.
(5)
وفي ختام مقالي أجد أن تنظيم (داعش) أبرز جماعات الفكر المتطرف وأشدها تطرفًا التي نتأت عن "التيارات الجهادية" آخذ في التحجم والأفول، ويصطف حركة أيديولوجية جامدة عن ديناميات الفعل وحركة الأحداث، بعد أن يدخل قطاعات كبيرة منه في مراجعات جادة، كما سبق أن حصل مع التيارات الجهادية في مصر وغيرها.