ما بين تبجح دولة الاحتلال بحربها على ثلاث دول عربية، ومواجهتها ثلاثة جيوش مرة واحدة وانتصارها الساحق عليها جميعًا في أقصر وقت ممكن (ستة أيام أو ست ساعات)، واحتلالها الضفة الغربية والجولان وصحراء سيناء الشاسعة عام سبعة وستين؛ وتمنياتها مواجهة فصيل واحد من فصائل المقاومة في غزة ثم رجائها أن تتوقف الحرب، ولو باستجابتها لشروط هذا الفصيل، وقبولها مكرهة توازن الردع والرضوخ لقواعد الاشتباك التي كانت قبل هذا العدوان؛ هكذا تتآكل صورتها وتتآكل قدراتها على الردع وقدراتها القديمة في قذف الرعب في قلوب أمة العرب بجيوشها ودولها، التي تنفق كثيرًا دون أن ترفع طرفها، أمام هذه الدولة التي كانت في يوم من الأيام مرعبة، وكان جيشها صاحب اليد العليا والطولى في المنطقة.
ولو لم تحقق هذه الجولة الأخيرة إلا هذا لكفى، يكفي زعامة أمة العرب المنبطحة والمستسلمة والمطبعة، والمتذرعة بأنهم لا قبل لهم بهذه القوة الخارقة حليفة وربيبة المارد الأمريكي الذي يقرر مصائر البلاد والعباد؛ تكفيهم هذه الصورة التي يصنعها فصيل واحد من الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة، لتكشف عورتهم ولتظهر على الملأ خورهم وجبنهم (على حسن الظن بهم) أو عمالتهم وتبعيتهم وانحيازهم لهذا المارد وتلك الربيبة المدلّلة، لقد كشف فصيل فلسطيني يمتلك إرادة القتال، ويمتلك قدرات متواضعة، ولكنها بأيدي أناس أمناء محترفين في السياسة كما هم محترفون في القتال، يعرفون الحد الفاصل بين التهور والجبن، فيصنعون شجاعة ذكيّة فريدة دون أن يقعوا في تهور غير محسوب فيدفع الناس ثمنًا باهظًا لهذا التهور، ودون الوقوع في الجبن والتراجع والانحناء أمام العاصفة الهوجاء التي يمتلك ريحها عدوّهم، ولكنه يوقع نفسه من حيث لا يحتسب في معادلة تكشف حقيقته وتكشف زيف جبال الوهم التي بناها في نفوس العرب منذ زمن طويل.
ولقد امتلكت المقاومة الفلسطينية بغرفة عملياتها المشتركة قدرة عالية على المناورة وجرّ الثور لنطح الخرقة الحمراء، حيث ينكشف ويصبح مرمى لسهامها وتسجل عدة أهداف، دون أن يحدث العكس كما كان سابقًا في حالات مشابهة، نجرّ إلى الخرقة الحمراء لنطحها ثم نتلقى سهامه القاتلة، حيث لعبة الاستعمار التي يجيدها مع الشعوب المستعمرة.
لقد قرّرت غرفة القيادة المشتركة في غزّة ألا تتيح لهذا الثور أن يفتح حربًا شاملة، ونتنياهو في المعادلة الداخلية كان يتمنى ذلك، أعطوه ما أراد مع ترك الرد الموجع لسرايا القدس، فظهر بصورة مخزية: جبانًا خائفًا دخول حماس المعركة، وظهرت خشيته جليّة واضحة، وفي الوقت نفسه يحقق معادلة الردع فصيل واحد، هذا الذي كان يرعب عدة دول، ويفتح عدة جبهات في وقت واحد يخشى الآن فتح الحرب مع عدة فصائل، ثم واحد منها يلزمه حدّه ويفرض شروطه لوقف العدوان.
لقد ظهر الثور بغبائه وسار طائعًا لضرب خرقة المقاومة الحمراء، وتلقى ما يعيده إلى زريبته بعد أن ظهر بغبائه وجبنه.
كان في السابق هو الذي يجيد استخدام الخرقة الحمراء في مصارعة ثيران هو يملك إيقاعها وقت ما يريد وكيف ما يريد، نسارع بردّات فعل وعنفوان عاطفي دونما أن نزنها بمعادلات السياسة الدقيقة، فننطح ثم نتلقى ضرباته الموجعة، الآن يحصل العكس تمامًا، هو ينطح ثم يتلقى ضربات المقاومة الموجعة، والآن تقيم غزة ومقاومتها مدرسة سياسية محترفة بما تمتلك من وعي سياسي وخبرة واستفادة من خبرات الآخرين والقدرة على توظيفها، وفوق ذلك كله التفكير الجماعي المشكل من خالص خبرات الفصائل التي عركتها التجربة بقوة بعيدًا عن الانفعال العاطفي، مع فهم عدوّها ونياته وطرق تفكيره بدرجات تخصصية عالية.
الآن غزّة هي التي ترفع الخرقة الحمراء وهي القادرة على لجم هذا الثور وتسديد الضربات الموجعة له بالقدر المطلوب والوقت المناسب والإيقاع المثمر عسكريًّا وسياسيًّا، لقد نجحت أيما نجاح باستخدام وسيلة الاستعمار المفضلة، وتحويله إلى الثور الهائج، وهي مثل مصارع الثيران المحترف، لا تمتلك قوته ولكنها تمتلك العقل السياسي والقدرة العالية على استخدام الخرقة الحمراء بعد أن نزعتها من يده، وراحت تستخدمها في وجهه بعد أن صار الثور الذي لا تحركه إلا السياسة العقيمة ونوازع الشرّ والهروب من الأزمات الداخلية.