فلسطين أون لاين

"أم علاء" تفقد مقبِّل يديها ووجنتيها

...
صورة أرشيفية
غزة/ أسماء صرصور:

وُلد الشهيد علاء يوم أحد! يا ترى كيف حُفر هذا اليوم حفرًا وثيقًا في ذاكرة والدته أم سامي اشتيوي (57 عامًا)؟ ولمَ ترويه والضحكات تسابق حديثها؟

في العام الذي ولد فيه علاء درجت على العادة أن يكون يوم الأحد إضراب عام، وهذا يعني عدم وجود أي مواصلات عامة يتنقل بها أي شخص، لكن جنين أم سامي والذي خرج لاحقًا إلى الحياة ليكون علاء لم يعترف بالإضراب، فوفق مشيئة الله تعالى ولد فيه.

إذًا كيف يتصرف والده؟ ومن أين يحضر الداية –القابلة- التي اعتادت توليد زوجته في المنزل في كل حمل؟ لم يكن أمام أبو سامي اشتيوي سوى أن يتنقل بواسطة جرار زراعي –تراكتور- ليحضر الداية، وبسبب الإضراب أيضًا أحضر داية أخرى غير المعتادة.

كل هذا سجلته ذاكرة والدته رغم آلام المخاض، و"ضحكت من وسط الوجع" كما تقول، لعل ذكرياتها كانت تعرف أنها يومًا ما ستكون سندًا لها وهي تروي لصحيفة "فلسطين" حكاية ابنها الشهيد علاء جبر اشتيوي (30 عامًا)، الذي استشهد بقصف إسرائيلي استهدفه في حي الزيتون شرق غزة في الـ13 من الشهر الجاري، خلال العدوان الأخير.

الشهيد علاء اشتيوي مواليد عام 1989 وهو الثامن في إخوته وأخواته والخامس في عداد الذكور، متزوج ولديه ثلاثة أطفال رهف (ست سنوات)، وصهيب (أربع سنوات)، وعدي (تسعة أشهر)، ويعمل في ورشة حدادة.

تعود أم سامي للذكريات مجددًا، وهي تتحدث عن علاء الطفل العنيد الرافض للظلم أو حتى أن يأخذ أحد لعبته الخاصة، فتقول: "نسكن في أرض زراعية وفيها خلاء، لذا في العيد أشتري لأولادي ألعاب السيارات وشاحنات الحفر والجرارات الزراعية حتى تناسب اللعب بالرمال"، مشيرة إلى أن علاء وقت ذهابه إلى المدرسة يحفر حفرة في الرمال ويخفي لعبته حتى لا يهتدي إليها إخوته.

لكن مع ذلك دومًا يهتدي أخوه الأكبر منه مباشرة أسامة لمكان ألعابه، فيخرجها ويلعب بها، وبعد عودة علاء يبدأ رحلة البحث والتحقيقات حتى يعرف أن أخاه الفاعل، ومع ذلك بعد جولة من البكاء، يسامحه ويلعبان معًا.

وعن علاء الحنون جدًّا، فدمعته قريبة جدًا –تتحدث-، فإن أزعجني أحد إخوته ونال علقة مني، فإن رأى علاء دمعة أخيه يحضنه ويربت على كتفه حتى يتوقف عن البكاء، وأما عن أخيه الأصغر شديد التعلق بوالدته، فيأخذه إن خرجت أم سامي حتى لا يعطلها عن مشاويرها.

كبر علاء وفي الإعدادية برزت رجولته أكثر، وأصبح يدلي برأيه في المنزل، وبعدها اقترب سن زواجه، وعن هذه اللحظة تقول أم سامي: "لم يتعبني ولم يطلب شروطًا فقط أرادها ابنة خلق، ونفسية طيبة، فخطبته لم تأخذ مني سوى مشوار واحد أو اثنين، لتكون نصيبه زوجته فاطمة أبو زور".

رحل علاء.. فماذا ستفقد أم سامي باستشهاده؟ تتنهد تنهيدة عميقة: "سأفتقد ابتسامته الصباحية وغمازتيه، وتقبيل وجنتي ورأسي، فلم يكن يبدأ يومه إلا بالسلام عليَّ، وإن تعثر عليه ذلك، يتصل بي يستسمحني بعذره، ويمر عليَّ لاحقًا".

آخر مرة خرجت فيها معه كانت يوم السبت أي قبل أربعة أيام من استشهاده، حينما صحبها هي ونساء وصغار العائلة إلى حديقة الحيوان القريبة، فكانت أول وآخر رحلة تخرج فيها مع ابنها علاء في ذكرى المولد النبوي الشريف.

تنتقل الحكاية لترويها أمل الشقيقة الكبرى لعلاء، وهي الأم الثانية له رغم أن فارق السن بينهما ليس كبيرًا، فهي تكبره بتسعة أعوام فقط، لكنها كانت تصحبه إلى مدرسته خوفًا عليه من الطريق، فكبر علاء ليبادلها الحب والود والتواصل المستمر اطمئنانًا عليها وعرفانًا بجميلها عليه، ويقبّل يديها لأنه يراها في مقام والدته.

وتتحدث أمل عن موقف روته سيدة -من أقارب العائلة-: والدتها كبيرة في السن ولا تتنقل إلا على كرسي متحرك، فما كان من علاء إلا أن ترجل عن دراجته النارية، وأقسم أن يوصل والدتها إلى حيث تريد ثم عاد أدراجه إلى حيث يريد، وهو موقف يظهر شهامته ومساعدته للناس أينما كانوا.

وعن علاقته بأولاده، تحكي أن ابنه صهيب متعلق به كثيرًا ويصحبه في حله وترحاله، وأنه نسخة طبق الأصل عن والده في كل تصرفاته وأفعاله، فإن كان علاء الجسد رحل، فروحه وشخصيته ورثها ابنه صهيب.

وتنقل عن زوجته -لم يتسنَّ لنا محاورتها لعدم مقدرتها على الحديث- أن علاء قبيل استشهاده أمسك ابنه صهيب وأخبره أنه سيرحل إلى الجنة قريبًا وأنه سيغدو هو رجل البيت، فأيده ابنه، ويردد الآن أنه عندما يكبر –على الرغم من صغر سنه- أنه سيثأر لوالده.

وعن آخر يوم رأته فيه، تقول شقيقته: "يوم الجمعة التمت العائلة كما العادة، واحتفلنا بابن شقيقتي لحفظه القرآن الكريم"، مشيرة إلى أن الجميع لاحظوا تأخر علاء، فهاتفته والدته، وعندما جاء همَّت أمل بتجهيز طبقٍ له من أنواع الحلوى لكنه لم يهتم كثيرًا لكون الطبق جماليًّا بل طلب منها أن تريح نفسها وأكل بنفسه.

ويعود الحديث لوالدته مجددًا، وهي تحكي كيف عرفت باستشهاده، فالقصف حدث قرب منزل علاء، فاتصلت عمة الشهيد تخبرها بإصابته، فبكت واسترجعت الله وحمدته، ودعت الله أن يأجرها في مصيبتها ويخلفها خيرًا منها، ومن حولها يقولون إنها مجرد إصابة لا استشهاد، لكن قلب الأم يعرف ما ستؤول إليه نهاية الحكاية.

فأم سامي تروي أ "الهواية جامدة" لذا قلبها يقول إن علاء شهيد، فجاء أخوه يحمله، ويضعه في السيارة، ويقول لها: "يمّا بعوض ربنا"، لتترك دموعها تسيل نهرًا ولا يكفّ لسانها أبدًا عن حمد الله واسترجاعه.