منذ حزيران الماضي الحملة المسعورة على العيسوية من الاحتلال بأذرعه المختلفة الأمنية والشرطية والمدنية مستمرة ومتواصلة، وكما صرح وكشف قائد لواء ما يسمى شرطة "القدس" السابق ميكي ليفي إن الهدف من ذلك لا يتصل بالجوانب الأمنية، بل هي حملة منظمة، تهدف لخلق رأي عام إسرائيلي، يطالب بتجريد أهل العيسوية من هويتهم "الزرقاء" الإسرائيلية، وبأن تكون النموذج للانفصال عن القرى والبلدات المقدسية في القسم الشرقي من المدينة، من أجل الحفاظ على واقع ديمغرافي يضمن أغلبية كبيرة للمستوطنين فيها، إنها سياسة "أبارتهايد" وتطهير عرقي تنفذ بحق المقدسيين.
بالأمس وكما هي أيام العيسوية ويومياتها اقتحمت قوات كبيرة من جيش وشرطته حي عبيد في القرية، ومارست طقوسها السادية اليومية بالاعتداء على النسوة والأطفال والشيوخ والسكان، مستخدمة القنابل الغازية والصوتية والأعيرة المطاطية المغلفة، فضلًا عن الضرب المبرح، الذي أنتج عشرات الإصابات بالاختناق أو الضرب، وعددًا من المعتقلين، وما خلفه هذا الهجوم والاقتحام الوحشي من دمار وخراب في ممتلكات السكان.
العيسوية دائمًا في قلب الحدث، هي بكل مكوناتها ومركباتها الوطنية السياسية والمجتمعية والشعبية لم تنزل عن جبل أحد، ولسان حالها يقول: هذا زمن المغارم لا زمن المغانم، ولذلك كانت دومًا عرضة لكل أشكال العقوبات من أجهزة الاحتلال الأمنية والمدنية، جيش وشرطة ومخابرات ينكلون بالمواطنين ويتفننون في قمعهم وإذلالهم، عقوبات جماعية، الإغلاقات متكررة لمدخل البلدة بالمكعبات الإسمنتية، عمليات دهم وتفتيش واعتقالات، وإطلاق للرصاص الحي والمطاطي والقنابل المسيلة للدموع والقنابل الصوتية، ومنع أي نشاط أو فعالية، مهما كبرت أو صغرت، حتى لو كانت مخيمًا صيفيًّا، أو افتتاح ملاعب، لا استقبال أسير محرر من سجون الاحتلال، وبلدية الاحتلال حاضرة دائمًا شبه يومي في تحرير مخالفات البناء تحت حجج وذرائع البناء غير المرخص وأوامر الهدم والقيام بعمليات الهدم لبيوت ومنشآت أهالي العيسوية وتجريف أرضهم، ومصادرة حتى حيواناتهم، ودائرة معارف إسرائيلية وبلدية لا توفران الغرف الصفية لطلبة العيسوية، وتسعيان إلى أسرلة المنهاج الفلسطيني في مدارسها، والهدف واضح "تطويع" طلبتها و"صهر" وعيهم، وتفريغهم من محتواهم الوطني والنضالي.
العيسوية كباقى القرى المقدسية، الاحتلال وبلديته وداخليته رفضوا إقرار مخطط هيكلي للبلدة يلائم احتياجات السكان، ويصرون على محاصرتها بالمستوطنات، ويصادرون أراضيها من أجل ما يسمى الحدائق الوطنية "التلمودية" لمنع تمددها الجغرافي، لذلك الضائقة السكنية وعدم وجود أراض للبناء يدفعان سكان العيسوية إلى البناء غير المرخص، من أجل إسكان أبنائهم نتيجة للزيادة الطبيعية للسكان، وتلك الأبنية تكون بلدية الاحتلال ووزارة الداخلية حاضرتين لها بالمرصاد، إما بالهدم في المراحل الأولى من البناء، أو فرض غرامات باهظة على البناء غير المرخص بعد بنائه، ثم دورة من الذل والمهانة لصاحب البيت في المحاكم الإسرائيلية تمتد عدة سنوات أقلها خمس، وتصل أحيانًا إلى خمس عشرة سنة، وما يتكبده من خسائر كبيرة مصاريف للمحامين والمهندسين والمساحين، ومن بعد ذلك غرامات باهظة على البناء، وفي أغلب الأحيان، لا يستطيع الإنسان المقدسي ترخيص ما بناه، وبذلك يكون مصير ما بناه إما قيام جرافات وبلدوزرات الاحتلال بعملية هدم البيت، وتحميل صاحب البيت تكاليف عملية الهدم (60 – 80) ألف شيكل، أو إجبار الإنسان المقدسي على هدم بيته بيديه، وهنا قمة الإذلال وامتهان الكرامة.
العيسوية وجبل المكبر ومخيم شعفاط والبلدة القديمة وسلوان من أكثر الأحياء المقدسية عرضة للعقوبات الجماعية، والاحتلال سعى إلى كسر إرادة سكانها وتحطيم معنوياتهم بأشكال عقابية متنوعة ومتعددة، وبسبب هذا الصداع الدائم من تلك البلدات والأحياء، طرح قادة أمنيون وعسكريون حاليون ومتقاعدون ووزراء وأعضاء كنيست، فكرة الانفصال عن أحياء كالعيسوية وجبل المكبر ومخيم شعفاط وصور باهر، ووضعها في "جيتوهات مغلقة"، يتحكم الاحتلال في مداخلها ومخارجها، فلا تكون ضمن مسؤولية السلطة أو جزء من المناطق التابعة لبلدية الاحتلال.
سكان بلدة العيسوية مع حالة القمع والتنكيل التي تواصلها بحقهم أجهزة الاحتلال المدنية والأمنية "طفح بهم الكيل"، ولذلك لم يكن أمامهم أي خيار سوى الصمود والمقاومة، ولذلك هم انتفضوا في وجه الاحتلال، وكانت انتفاضتهم متزامنة مع عقد ورشة البحرين الاقتصادية، المستهدفة تصفية القضية الفلسطينية، ومرتكزات مشروعها الوطني، وفي المقدمة منه القدس، ولذلك جاءت هبة وانتفاضة أهل العيسوية، لكي تعبر عن الرفض المقدسي، لما يجري في البحرين من تطاول على حقوق شعبنا وقضيتنا الفلسطينية، إذ تجري عملية تصفية القضية بمشاركة عربية وأموال عربية، ولعله من المهم جدًّا القول: إنه أول مرة في التاريخ تدفع أموال إلى من سرق الأرض، لكي يحتفظ بهذه الأرض.
العيسوية قالت لا لورشة البحرين الاقتصادية أداة لصفقة القرن التصفوية، وهي لم تكتف بمعارضة تلك الصفقة قولًا، بل أتبعت ذلك الفعل عبر مواجهة مع الاحتلال مستمرة ومتواصلة، دفعت فيها الشهيد الأسير المحرر محمد سمير عبيد، وعشرات الجرحى والعديد من الأسرى، وهي ترسل رسائلها للمحتل، أنْ مهما قمعتم ونكلتم، ومارستم عقوباتكم الجماعية؛ فالعيسوية لن تركع ولن ترفع الراية البيضاء.
الاحتلال يمارس كل أشكال البلطجة والزعرنة على شعبنا الفلسطيني عامة، وشعبنا وأهلنا في مدينة القدس خاصة، مسكونًا بنظرية العرق الآري (التفوق العرقي)، معتقدًا بأن عطايا المتصهين ترامب بنقل سفارة بلاده من (تل أبيب) إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال توفر له الفرصة المواتية لاستثمار ذلك سياسيًّا، بطرد وترحيل شعبنا قسرًا من مدينة القدس، ولذلك نحن نشهد "مجزرة" بحق الحجر الفلسطيني على طول وعرض مدينة القدس، في وادي الحمص ووادي ياصول وأحياء البستان ووادي الربابة وبطن الهوى في سلوان وكبانية أم هارون وكرم الجاعوني في الشيخ جراح ... إلخ.
نتنياهو وجوقة المتطرفين معه مع كل مكونات ومركبات الطيف السياسي الصهيوني من اليمين الديني والعلماني يعتقدون واهمين بأن المقدسي الذي لا يخضع بالقوة يخضع بالمزيد منها، وفي قاموسهم لا يوجد هناك شعب فلسطيني، بل تجمعات سكانية، هكذا وصفنا مهندس ورشة البحرين الاقتصادية المتصهين كوشنر: "الناس في غزة"، "الناس في الضفة الغربية"، وكأننا لسنا شعبًا، بل مجرد أرقام دون أسماء أو أرقام هوية.
على نتنياهو وجوقة "الرداحين" معه من قوى اليمين الصهيوني المتطرف أن يدركوا أننا لن نكون هنودًا حمرًا ولن نتبخر أو نختفي، وصغارنا لن ينسوا، مهما كانت المرحلة رديئة، وها هي العيسوية بصمودها ونضالاتها تعيد اتجاه البوصلة لكل العرب والمسلمين، نحو القدس، ولا شيء آخر غير القدس.
نعم، العيسوية تواجه حملة شرسة ومتواصلة من كل أذرع الاحتلال وأجهزته الأمنية والمدنية، والهدف واضح، ليس فقط "بروفات" الهدف منها تحطيم إرادة المقدسيين وكسر إرادتهم، وطردهم وتهجيرهم قسرًا، بل هي مخططات مرسومة وممنهجة، لتحقيق أهداف سياسية، تتمثل في خلق رأي عام إسرائيلي، يرى العيسوية وغيرها من القرى والبلدات المقدسية صداعًا دائمًا يجب التخلص منه، من أجل تحقيق أمن واستقرار المدينة، بأقل عدد ممكن من العرب، إنها حروب التطهير العرقي بحق المقدسيين لدفعهم إلى رفع راية الاستسلام في وضع فلسطيني داخلي متشظٍّ ومنقسم وجبهته الداخلية غير محصنة، ووضع عربي منهار و"مندلق" على التطبيع العلني مع العدو الصهيوني، ومشارك معه في أحلاف وعمليات تنسيق وتعاون.