لم يصدر بلفور وعده بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين إلا بعد أن تمكن المستوطنون اليهود من فرض حقائق عدوانية على أرض فلسطين، وبعد أن تأكد للمجرم الذي أعطى الوعد أن الوضع الدولي والإقليمي يسمح بإقامة الدولة اليهودية، وهذه الحقائق الموضوعية تذكرنا بحدثين مهمين في تاريخ القضية الفلسطينية:
الحدث الأول: لم يقُم المستوطنون اليهود أولى مستوطناتهم بتاح تكفا سنة 1882، إلا بعد أن احتلت بريطانيا أرض مصر في السنة نفسها، وتقع فلسطين كلها تحت قبضة الاستعمار البريطاني.
الحدث الثاني: لم يحتل البريطانيون أرض مصر إلا بعد أن اشترى رئيس وزراء بريطانية آنذاك اليهودي بنيامين دزرائيلي أسهم الخديوي إسماعيل في شركة قناة السويس عام 1875، وعلى مسئوليته الشخصية، وبأموال الملياردير اليهودي روتشليد، ودون موافقة البرلمان البريطاني، وكان اليهودي بنيامين دزرائيلي يمهد لاحتلال مصر من وراء صفقة شراء 44% من أسهم قناة السويس، وكانت السيطرة على مصر هي المقدمة لتحقيق الشعار الذي رفعه دزرائيلي حين زار فلسطين سنة 1860، وقال جملته الشهيرة: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
قراءة التاريخ بعد مرور 102 سنة على ذكرى وعد بلفور تفرض علينا تذكر وعد ترامب قبل عدة أشهر، حين لم يعترض على فكرة ضم الضفة الغربية، وحين قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وحين اعترف بالجولان أرض إسرائيلية، وهذا الاعتراف الوعد ما كان ليصدر عن ترامب لولا ثقته التامة بأن اليهود قد فرضوا حقائق جديدة على الأرض، وأثبتوا وجودهم المادي في القدس نفسها، وعلى أرض الضفة الغربية التي أكلها غول الاستيطان.
في ذكرى وعد بلفور، ولمواجهة وعد ترامب لا يكفي أن يصدر الفلسطينيون البيانات، ولا يكفي أن يدلوا بالتصريحات الغاضبة والأحاديث السياسية والمقالات واللقاءات والمقابلات والزعيق عبر مكبرات الصوت، مواجهة وعد بلفور ووعد ترامب يتمثل بقلقلة الواقع الراهن، وخلخلة الحقائق الجديدة التي تمكن المستوطنون من فرضها على أرض الضفة الغربية، والحيلولة دون تحقيق الأمن للمستوطنين، ودون ذلك، فالأطماع اليهودية على أرض فلسطين لا يحدها سقف، وهم ينتظرون المناسبة، أو الحدث، أو أي خلل في المحيط العربي والإقليمي لسن القوانين التي تشرع استلاءهم على أرض الضفة الغربة؛ التي تمكنوا منها في غفلة من المفاوضات العبثية، وتمكنوا منها بغطاء من زمن الانتظار، الزمن الذي اشتراه اليهود من القيادة الفلسطينية مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير، ومقابل أموال المقاصة، ومقال بطاقات VIP، ومقابل إشغال الفلسطينيين بمشاكلهم الحياتية، وأوضاعهم الداخلية.