فلسطين أون لاين

سلامة ​أول غواص في الوطن العربي بكرسي متحرك

...
غزة - هدى الدلو

بعدما أصبح الكرسي المتحرك صديقه الذي لا يفارقه لحظة واحدة لم يستطع أن يكمل مشواره في السباحة التي عشقها منذ صغره، ولكنه لم يتوان في يومٍ ما عن مشاركة عائلته في الذهاب إلى النادي الرياضي، فكل ما بوسعه هو أن يضع كرسيه أمام ذلك المستنقع المائي، الذي تغذيه زرقته، وينظر إليه بنظرات وكأنه يشتكي إليه الحرمان والاشتياق في الوقت نفسه.

في تلك الأثناء قطعت عليه شروده مدربته في النادي تعرض عليه عرضًا كان مغريًا له، وهو أن تعلمه السباحة، عرفت الجواب منه حين رأت لمعة عينيه وفرحة ملامح وجهه، فلم تسعه السعادة التي تملكته باستعدادها لتدريبه وتعليمه السباحة، فأبدى لها كل استعدادٍ للالتزام بتعليماتها، وعلمته كيفية السباحة على ظهره بعمق أمتار، وهو مرتدٍ للدرع، وفي إحدى تدريباته أراد أن يلتقط أنفاسه على حافة البركة آخذًا قسطًا من الراحة، فجاءه طفل لا يتجاوز عمره 10 أعوام يقول له: "مش أنت عمو؟"، يقصد أنه كبير، رد: "آه أنا عمو"، فقال له: "طيب ليش لابس هادا؟"، مشيرًا بأصبعه إلى الدرع، للحظة شعر بزعزعة في نفسه، ليتخذ قراره الجنوني بعدما وصل إلى منتصف البركة حين نزعه، هو يرى أن طبيعته المتهورة تؤكد له في كل مرة أنه صاحب إرادة وقوة بفضل الله.

عبد الرحمن سلامة (33 عامًا) ذو الأصول الفلسطينية التي تعود إلى مدينة الرملة شخص عادي كما يحب أن يُعرف نفسه، تخطى مصاعب الحياة بقوته وإرادته مع إعاقته الحركية ليعيش الحياة كما يريد، صنفه المدربون العالميون في المملكة الأردنية الهاشمية بأنه أول غواص على كرسيه المتحرك على مستوى الأردن، والوطن العربي.

طفولة مغيبة

في عامه الرابع عشر كان طريح الفراش بعدما أصيب بسخونة، ما أثر على النخاع الشوكي، وأخطأ الطبيب في تشخيصه، ليشعر بثقل في قدميه ولم يستطع تحريكهما، قد يرى بعضٌ أنه العام الأسود في حياته، لكن لإيمانه بقضاء الله وقدره لم يعزُ ما حدث إلى الطبيب الذي أخطأ التشخيص، ولكنها إرادة الله فوق كل شيء.

وفي هذه المرحلة العمرية التي يقضيها من هم في مثل سنه في الذهاب إلى النوادي الرياضة، واللعب، والحيوية كان عبد الرحمن يقضي معظم أيامه في المستشفيات الأردنية، وأخرى في الأراضي المحتلة، فهذه الجولات المكوكية جعلته يعتقد أنها مسألة وقت وسيشفى، وسيعود مجددًا للمشي على قدميه.

اقترح عليه والده تسجيله في مدرسة خاصة لذوي الإعاقة، ولكنه رفض ذلك، يقول: "كان قبولي للدراسة في هذه المدرسة بمنزلة الحكم على نفسي بالعزلة عن المجتمع، وأن أصبح محط أنظار الجميع، ونقلني والدي من مدرسة حكومية إلى مدرسة خاصة، وكنتُ الوحيد فيها على كرسي متحرك، لكني تمكنتُ من أن أوجد لنفسي جوًّا من المحبة والألفة والمساعدة بين زملائي".

في عامه الـ(20) تغيرت نظرة ضيفنا إلى وضعه الصحي، وأيقنَ حينها أنه لا مجال للاستغناء عن ذلك الكرسي المتحرك، يقول: "شعرت أني مختلف وسيرافقني ذلك المقعد طيلة عمري، ولكن لم أشعر بغضب أو خوف من المستقبل، فهو اختيار الله، صحيح أن ظاهره سيئ، لكن باطنه جميل بإذن الله".

تحقيق ذاته

بعد الثانوية العامة لم يكمل تعليمه، وحصل على دورة (كورس) يابانية في طرق قيادة ودعم ذوي الإعاقة، ومدتها أربعة أشهر، فآمن بإعاقته ولم يخجل منها، وعمل مع والده في متجر لبيع الملابس، وكان مسئولًا عن 7 موظفين.

يقول: "فكرت للحظة في أنه قد يكون سبب احترامهم لي لأجل والدي، فقررت أن أترك العمل وأبحث عن وظيفة أثبت نفسي فيها".

لمعت في رأسه فكرة السفر إلى أمريكا، التي لاقت رفضًا قاطعًا من والديه، بحجة أنه يحتاج إلى من يعتني بأموره، فوضع والده اسمه على الحدود الأردنية لمنعه من السفر، تجاهل الموضوع مدة وجيزة، وأخبر والديه بأنه ذاهب مع أصدقائه إلى وادي الرم في رحلة ترفيهية، وبعد 14 ساعة من غيابه عن البيت اتصل بهما ليخبرهما أنه وصل إلى شيكاغو.

ويتابع سلامة حديثه: "والدي لم يتقبل فكرة سفري على عكس والدتي التي عدتها العامل الأساسي في حياتي، فهي بسبب إرادتي وقوتي، ولكنهما كانا معتقدين أن سبب السفر السياحة والبحث عن عمل، وفي قرارة نفسي اتخذت مدة سفري اختبارًا لذاتي هل سأخدم ذاتي وأكمل حياتي دون اعتمادٍ على أحد؟".

بعد عودته من سفره الذي استمر شهرين لم يسلم من توبيخ والده الذي وصفه بأنه صاحب عقل مسموم، ولكن كان رده أنه لا يريد أن يبقى طيلة حياته محتاجًا لمساعدة الآخرين، فعاد عبد الرحمن آخر، وكانت نقطة تحوله، يعقب على ذلك: "أصبحت أقود أشخاصًا من ذوي الإعاقة ، مفتخرًا أني على كرسي متحرك".

وعمل مدة 7 أعوام في المركز الأمريكي للدراسات الشرقية، لتعليم اللغة العربية باللهجة العامية للطلبة الأجانب.

عَالمٌ آخر

تجاوز حواجز الخوف بإراداته الصلبة، وإرادته القوية التي استطاع بها تخطي مصاعب الحياة، فانطلق في عالم السباحة، وفي ذات مرة في أثناء وجوده بالنادي حيث كان يؤدي تمرين السباحة اقترح عليه شاب أن يتسابقا على طريقة سباحة الفراشة، التي تعتمد على الرجلين بشكل عنيف، ولم يكن الشاب يعلم أنه من ذوي الإعاقة، فوافق وسبح مستعينًا فقط بيديه، فلم يكن يريد رفض الاقتراح لأنه قد يكون فيه إعلان لخسارته مقدمًا، وصلا معًا بعدما قطعا 18 مترًا في البركة، ولكنه وصل متعبًا وطلب من صديقه إحضار كرسيه المتحرك، فلم يصدقه المتسابق، بل اعتقد أنه أصيب بشد عضلي، فجلس ونظرات الاستغراب تحوم حوله.

أما الغوص فاكتشفه مصادفة خلال مواجهته أمواج الحياة المتقلبة، ويتابع سلامة: "بدأت بالغوص مصادفة، ففي عام 2013م كنت مع صديقي الغواص في العقبة، فاقترح عليَّ خوض غمار هذه التجربة، وبسرعة رددت بالموافقة إذ لم يوجد أي مشكلة، خاصة أنني كنت أمارس السباحة بعد الوعكة الصحية التي أصبت بها".

وبسعادة يكمل: "لم ننتظر كثيرًا، وتوجهنا إلى قرية الغواصين لنستفسر منهم عن إمكانية ممارستي للغوص، وبعد تفهمهم وضعي الصحي، والتحقق من عدم وجود أي مشاكل في القلب وافقوا"، وهناك تسلمت تدريبه مدربة هولندية لتعليم الغوص لذوي الإعاقة لتعليمه المهارات، وكيفية التواصل تحت الماء بالإشارة، والحركات اللازمة، وتشجع أكثر على خوض غمار هذه التجربة عندما وجد غواصة كفيفة.

وتحت الماء تفاجأ بالعالم الثاني حيث جمال خلق الله وعظيم إبداعه وصنعه، استطاع بالتدريج التنقل بين أعماق مختلفة من 6 أمتار إلى 10 أمتار، ثم 18 مترًا، مستخدمًا أدوات الغطس، وصنفه غواصون عالميون في الأردن أنه أول غواص على مستوى الوطن العربي في عام 2013م.

وبيبن سلامة أنه أجمل ما في الغوص أن تحت الماء لا يوجد فرق بين ذوي إعاقة وغيرهم من الناس العاديين، وبذلك استطاع أن يوصل رسالة لذوي الإعاقة، مفادها ألا يجعلوا الآخرين يُملون عليهم كيف يعيشون حياتهم، فالحياة عليهم أن يعيشوها مرة واحدة كما أرادوا.

ويطمح إلى أن يصبح مدربًا معتمدًا للغوص للأشخاص من ذوي الإعاقة، بإيجاد أناس تدعمه في إكمال (كورسات) في هذا المجال، إلى جانب خطوته الجديدة التي يسعى إلى تنفيذها أن يكون أول مظلي عربي على مستوى الوطن العربي.