أزمة المؤسسات المقدسية الكبرى من مشاف وشركة كهرباء القدس وغيرها من المؤسسات المقدسية ليست وليدة اللحظة، أو نتاجًا لأزمة السلطة المالية التي مرت بها قبل سبعة أشهر، بل هي أزمة ممتدة منذ سنوات طويلة، وربما عمرها من عمر أوسلو، وكان ترحل من عام إلى آخر، وكلما رحلت كانت تزداد تفاقمًا، لأن الحلول التي كانت توضع لأزماتها المالية هي حلول مجزوءة وترقيعية، وعبارة عن عمليات إطفاء حرائق، ولكي تصل أوضاع تلك المؤسسات، بعد كل عمليات الترحيل والتأجيل والمماطلة من السلطة في الوفاء بالتزاماتها إلى حالة تهدد بالانهيار الكامل لتلك المؤسسات، حتى وصل الأمر بمستشفى "الأوغستا فكتوريا" (المطلع) إلى وقف تقديم العلاج لمرضى السرطان، بسبب نفاد الأدوية من صيدلية ومستودعات المستشفى، وهذا كارثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فعلاج هؤلاء المرضى ليس كأي علاج يمكن تأجيله أو إيجاد البديل عنه، بل هناك إلحاحية عالية في توفير الدواء لهؤلاء المرضى.
عندما يكون دين المشفى على السلطة متراكمًا 200 مليون شيكل، فهذا يحتاج إلى وقفة جدية من أهل المدينة بكل قواها ومؤسساتها ولجانها وجماهيرها، هذه الجماهير التي أدركت بحسها العفوي الوطني الصادق أنه عليها ألا تبقى مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث ويجري، فبدأت طرح مبادرات فردية وجماعية لكي تجمع المال والتبرعات، من أجل إنقاذ حياة أناس يتهددهم خطر الموت الحقيقي، فكل تأخير في توفير العلاج لهؤلاء المرضى يسبب أضرارًا جسيمة وخطيرة لهم، قد تصل حد الموت.
في كل أزمة تعيشها مؤسسة كبرى من مؤسسات القدس ترفع إدارة تلك المؤسسة صوتها وتستغيث وتستنجد، وتتدخل السلطة الفلسطينية، لكي تسدد جزءًا بسيطًا من التزاماتها المالية، وتقرن ذلك بتسويغ عدم القيام بمسؤولياتها تجاه المؤسسة بفساد وترهل وخلل إداري في تلك المؤسسات، في خطوة هروب إلى الأمام وإلقاء اللوم والمسؤوليات على إدارة تلك المؤسسات، التي غالبًا ما يكون وجودها بقرار وتعليمات منها، وبناء عليه على السلطة أن تدفع التزاماتها كاملة للمشافي وشركة كهرباء القدس وغيرها من المؤسسات المقدسية، ثم فحص أي فساد أو ترهل أو خلل إداري ومعالجته على قاعدة كشف ومحاسبة الفاسدين، وإجبارهم على إعادة المال المنهوب والمسروق، أو الحجز على أتعابهم ومستحقاتهم، والاستغناء عن خدمات من هم عبء على المؤسسة وغير منتجين، أو تدويرهم في قطاعات أخرى، أو نقلهم إلى مؤسسات بحاجة إلى عاملين، في إطار تعزيز صمود المقدسيين وتثبيت وجودهم، وكذلك لا يجوز أن تكون التحويلات الطبية من الضفة الغربية إلى مشاف في الضفة أو أراضي الـ(48) على حساب مشافي القدس، فهناك منتفعون ومستفيدون من عمليات التحويل تلك في مؤسسات السلطة أو أطباء ووسطاء وغيرهم، ممن ينتفعون من تلك التحويلات في الإطار الشخصي، حتى لو كان ذلك على حساب قضية كبرى كقضية القدس.
اللقاءات والاجتماعات والمفاوضات بين إدارة تلك المؤسسات وقادة السلطة والمنظمة تبقى في إطار الوعود والمعالجات الجزئية والتسكينية، التي تبقي النار تحت الرماد، والإنشاء الممجوج والخطب الرنانة عن أن القدس خط أحمر، ومؤسسات القدس لا يجوز المساس بها، وهي صروح وطنية في مدينة القدس، وأهم معالم الوجود الوطني الفلسطيني، وغيرها من الشعارات؛ تحتاج إلى ترجمة للفعل على الأرض، لا سياسة "تبويس اللحى" و"الطبطبة" و"لم الطابق"، المسألة تحتاج إلى جرأة في طرح الحقائق ووضع النقاط على الحروف والذهاب إلى حلول ذات بعد إستراتيجي، لا يجعلنا كل عام نقف أمام أزمة لمؤسسة كبرى: المقاصد، أو المطلع، أو الهلال، أو شركة كهرباء القدس، أو المسرح الوطني، أو غيرها من المؤسسات المقدسية.
نحن نفهم أن السلطة لا ينبغي التعامل معها كرب عمل أو بنك للدفع، فإذا كان هناك فساد وترهل إداري في المؤسسات التي تمول؛ يجب أن يشهر سيف المحاسبة على قاعدة الأدلة والإثباتات، لا قاعدة الولاء الحزبي أو التنظيمي وغيره.
وكذلك إدارة تلك المؤسسات عليها أن تتواصل مع المقدسيين بقواهم وفعالياتهم وجماهيرهم، من أجل خلق أجسام داعمة ومساندة لتلك المؤسسات، وكذلك مطلوب منها أن تخلق جسمًا تنسيقيًّا يشمل أكبر عدد من مؤسسات المقدسية ذات الوجود الحقيقي على الأرض، وأن تتحرك عبر أوسع فضاء عربي وإسلامي ودولي من أجل الحصول على دعم مالي لتلك المؤسسات، التي وجودها في المدينة هو واحدة من أهم ركائز حماية الوجود وتعزيز الصمود في مدينة القدس.
نحن في مدينة القدس قوى ومؤسسات ولجانًا ومرجعيات على اختلاف تسمياتها ما يهمنا بالأساس ليس التصادم أو خوض صراعات ومناكفات مع هذه المرجعية أو تلك، نحن نريد أن يكون الصوت المقدسي مسموعًا وحاضرًا عند صناع القرار، وأن يستجيبوا إلى طلبات المقدسيين، فالحرب التي يشنها عليهم الاحتلال بلغت حد "التغول" و"التوحش" والاستهداف لهم حتى في أدق تفاصيل حياتهم اليومية، الاقتصادية والاجتماعية، وليس في إطار تحميل "الجمائل" أو المزايدة على أحد، أهل القدس يسجلون فقط بمجرد صمودهم في المدينة بطولات حقيقية، فهم حجر عثرة أمام تغيير واقعها الديمغرافي وتطبيق ما يعرف بصفقة القرن الأمريكية لجعلها عاصمة لدولة الاحتلال، فوجود المقدسيين وتشبثهم بأرضهم والصمود في قدسهم يدفع كل عام صناع القرار الإسرائيلي للبحث في كيفية التخلص منهم، عبر مبادرات ومشاريع تستهدف طردهم وترحيلهم إلى خارج حدود ما يعرف ببلدية القدس.
وأهل القدس يعرفهم الجميع، كانوا رأس الحربة في معارك الدفاع عن الوجود والبقاء، ومنع تغيير طابع المدينة ومشهدها العام وهويتها وتاريخها وتراثها وهوائها، وهم دومًا كانوا مفتاح الحرب والسلام في كل المنطقة، وخاضوا المعارك والهبات الجماهيرية المتلاحقة مع الاحتلال، وسجلوا عليه انتصارات حقيقية: معركة وضع البوابات الإلكترونية على بوابات المسجد الأقصى تموز/ 2017م، وعدم المشاركة في الانتخابات لبلدية الاحتلال تشرين الأول/ 2018م، وها هم يخضون معركة الدفاع عن هوية القسم الشرقي من المسجد الأقصى مصلى باب الرحمة ومقبرة باب الرحمة، التي يسعى الاحتلال إلى السيطرة عليها من أجل تغيير الطابع القانوني والتاريخي للمسجد الأقصى وتقسيمه مكانيًّا.
المقدسيون يطالبون السلطة الفلسطينية أن توفر أكبر قدر ممكن من الدعم المالي للمقدسيين، فما يضخ من ميزانيات للقدس لا يساوي 1/100 من الميزانيات التي يضخها الاحتلال لتهويد المدينة، ويكفي أن نذكر أن ميزانية بلدية الاحتلال للعام الماضي 7 مليارات و 300 مليون شيكل، فضلًا عن الأموال التي تضخها الجمعيات الاستيطانية والحكومة لتهويد المدينة وأسرلتها، القدس تحتاج للجميع مقدسيين وفلسطينيين وعرب ومسلمين، ولذلك مسؤولية حماية مؤسسات القدس والدفاع عنها مسؤولية جماعية، ولكن على السلطة أن تفي بالتزاماتها ووعودها لأهل القدس، فالقدس ليست مجرد شعارات ترفع أو وعودًا لا تنفذ، وأهل القدس بحاجة لكشوف من صناع القرار بالأموال التي صرفت ودفعت لأهل القدس، لكي نعرف لمن أعطيت وكيف صرفت.