في غزة فقراء ينتظرون موعد بطاقة تموين الأونروا بهدوء، وبعضهم ينتظر بطاقة تموين الشؤون الاجتماعية بصمت، وبعضهم ينتظر بطاقة المساعدات من الجمعيات الخيرية بخجل، في غزة فقراء لهم كرامة، يتعففون عن الظهور بمظهر الفقير، أنفسهم عزيزة، يطوون على الجوع والفاقة، وهم يمضغون واقعهم المر، ويعرفون أن قضيتهم سياسية وليست إنسانية، فقراء ولكن لا يتوسلون.
وفي غزة فقراء يتفاخرون بفقرهم، يتوسلون سبل العيش في الشوارع بلا حياء، وربما لديهم من المال ما لا يعرف عنه أحد، امتهنوا التسول، وهم يطوفون في الشوارع، ويجوبون الجمعيات والمؤسسات، يحملون وثائق تؤكد أنهم فقراء، ويقدمون شهادات تؤكد أنهم مرضى، أو مجانين، وأنهم بحاجة إلى العلاج، فقراء نفس يطوفون الشوارع بكل وقاحة، وكأن الحاجة شهادة علمية، أو نيشان يعلق على الكتف، وكأن الحاجة لمال الناس وشاحاً يتفاخر فيه البعض، ولا يعلم حقيقتهم إلا الله.
في غزة حملة ضد المتسولين، وهذا مطلب مجتمعي، وشأن يلح على كل غيور بالوقوف ضد ظاهرة التسول، وعدم مد يد العون لهم، لا كرهاً للمعروف، وإنما كره لظاهرة سيئة، ليست من أخلاق مجتمعنا، وجميعنا يعرف أن العائلات المستورة لا تتوسل حياتها، رغم حاجتها إلى يد العون، وهم الأحق بالأيادي البيضاء، فمن كان عنده فضل مال فليجد به على الجمعيات والمؤسسات الخيرية، فهم أدرى بالمحتاجين، وهي أعرف بخفايا البيوت المستورة.
حديثي هذا لا يأتي من شبع، ولا من بطر عيش، وإنما ينبع من تجربة فقر مريرة، مرت علينا نحن الفلسطينيين في قطاع غزة بعد نكبة 48، فقد كنا فقراء جداً في مخيمات اللاجئين، ومع ذلك؛ كنا نخجل أن نبدو فقراء أمام بعضنا، ونخجل أن نتسول طعامنا، حتى ونحن نقف في الطابور أمام مراكز التغذية التي أقامتها الأونروا في ذلك الوقت، حين كان البعض منا يمشي في الشارع وهو يضع الشنطة على مؤخرته، كي يخفي بها رقعة البنطلون الممزقة، كي لا يبدو أمام الناس فقيراً، في تلك الأيام من النكبة ترافق الجوع مع الكبرياء.
في هذه الأيام، يتفاخر البعض بالفقر، ويتباهى بأنه لا يملك قوت يومه، يستوقف الناس في الشارع، ويبرز لهم وثائق وشهادات تؤكد أنه فقير، وأنه بحاجة لمساعدات، وأنه مسكين ضعيف ذليل وضيع.
فمن الذي انتقل بشعبنا من حالة الكبرياء إلى حالة التوسل والاستجداء؟
من هم المسؤولون الفلسطينيون الذين جعلوا التسول صنعة، واستجداء المال من الدول البعيدة برنامج عمل، وجعلوا استعطاف قلب الأعداء شطارة، وجعلوا الحصول على أموال المانحين أو الداعمين قدرات سياسية خارقة؟
من هم المسؤولون الفلسطينيون الذين تفننوا في التسول حتى صار طبعاً وعادة؟ من هم المسؤولون الفلسطينيون الذي زرعوا شجرة التسول في كل ربوع الوطن، وسقوها بماء الضرورة السياسية، ورشوا أغصانها بالمهانة حتى نامت بعض المؤسسات على ذراع الغريب، ورضعت حليب الغدر؟ من هم المسؤولون الفلسطينيون الذين مثلوا لنا القدوة، وهم يمدون يد المذلة، يستجدون المال في المحافل الدولية، ويتسولون على أبواب الأمراء والملوك طلباً للمساعدات، حتى صرنا في السنوات الأخيرة شعب الأرامل والأيتام والعجزة والجرحى والمرضى والمساكين وأبناء السبيل والمارقين على السياسة، وصار التسول عنوان البعض، وهو يرجو وظيفة أو شهادة أو ترقية أو منحة أو درجة وظيفية أو بدل مواصلات أو زيادة راتب، أو حتى بطاقة تليفون مقابل أكياس مملوءة بالهتاف لهذا التنظيم والتسحيج لذاك القائد!