لم يكن إطلاق مصطلح الحرب على أساليب الدعاية النفسية المُستَخدمَة للتأثير على معنويات مجتمع العدو وتغيير اتجاهاته بالحرب النفسية من باب الصدفة أو اختيارًا عفويًّا؛ بل إدراك لأهميتها وفعاليتها في هدم المجتمعات وتفكيك مكونات تماسكها من الداخل بطرق سهلة ومريحة نسبيًّا, فهي أكثر تأثيرًا وأقل تكلفة فبدلًا من استخدام الطائرات والدبابات تُطلق الشائعات وتُنشر الأكاذيب؛ إلا أن الجهات التي تلجأ إليها غالبا ما تفتقر إلى القدرة على إخضاع خصمها بالطرق العسكرية ولا تمتلك الجرأة على الإقدام والتضحية ودفع ثمن المواجهة, وهو ما يُفسر تكثيف (إسرائيل) جهودها في هذا المجال خلال السنوات الماضية, فلو إنها امتلكت القدرة على تحقيق جزء بسيط من انتصارها في حرب 67 لما ترددت للحظة لاستعادة هيبتها وترميم قوة ردعها المتآكلة, كما يعترف بذلك موشيه يعالون "لقد واجهنا صعوبة في تفسير كيفية تمكن المقاومة في غزة من الصمود أمام الآلة العسكرية على مدار 51 يوما ولم نتمكن من عرض إنجازات كما فعلنا خلال حرب الأيام الستة حينما تمكنا من رفع العلم في الهضبة وسيناء وحائط المبكي" وليس من الغريب أن يتضمن البرنامج الانتخابي لحزب "أزرق أبيض" فقرة تدعو لدق الأسافين بين المقاومة والمجتمع الغزي انسجاما مع الرؤية والدعوات العلنية لقادة أحزاب اليمين، وقد أبدعت (إسرائيل) في محاولاتها لحرف البوصلة الفلسطينية وإدخال المجتمع الفلسطيني في متاهات لا نهاية لها لإشغاله في نفسه واستنزاف قدراته لكي يسهل اختراقه وإخضاعه لاحقا ودمجت بين الأساليب التقليدية والحديثة بما يتناسب مع المتغيرات حيث ركزت على الأساليب التالية:
1- التهديد والوعيد للمقاومة في غزة وإطلاق التصريحات النارية بأنها على وشك القيام بعملية عسكرية واسعة وقد حرصت على إظهار جديتها من خلال التدريبات العسكرية المكثفة التي تُحاكي احتلال غزة واستعراض التعزيزات العسكرية على حدودها، بل إن القيادة السياسية والعسكرية شاركت في هذه الدعاية لإكمال الصورة وبث حالة من الهلع وزرع الخوف في صفوف الغزيين.
2- تشكيل طاقم من الخبراء للعمل على مدار الساعة لاستغلال الأحداث العابرة والتصريحات العفوية وتضخيمها لإحداث حالة من البلبلة وإبقاء حالة التوتر الدائم.
3- تبني أسلوب القصف الإعلامي بما يعني نشر الشائعة تلو الأخرى لترسيخ الرواية الإسرائيلية وعدم إتاحة المجال أمام الخصم لالتقاط أنفاسه أو دحض الشائعات أو عرض روايته، تطبيقا لقاعدة جوزيف غوبلز" اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس".
4- إنشاء حسابات وهمية على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء مزيفة والتفنن في نشر الأكاذيب وترويج مصطلحات ورسائل معادية للخصم ومحاولة للتشكيك في مصداقية روايته، عدا عن إنشاء صفحات ممولة تهدف للطعن والتشهير به وتشويه صورته.
5- تكثيف إطلاق الشائعات حول الشخصيات القيادية التي ترفض التعاطي مع أجندتها والرضوخ لإملاءاتها وذلك في محاولة للضغط عليها وتحطيمها معنويا وزعزعة ثقة الشارع بها وفي المقابل تحطيم الروح المعنوية للحاضنة الشعبية من خلال المساس بمكانة قيادتها.
6- تضخيم الإنجازات العسكرية والأمنية كالمبالغة في فعالية القبة الحديدية والتطورات التكنولوجية والتباهي بقتل أكبر عدد من الفلسطينيين وعدد المواقع التي تم قصفها، وفي المقابل تقليل قيمة الأضرار التي تعرضت لها، والإنجازات التي حققها الطرف الآخر.
هذه الأساليب وغيرها تهدف إلى حرف البوصلة الفلسطينية عن القضايا الرئيسة كالقدس واللاجئين والأسرى وإشغال الفلسطينيين في قضايا هامشية وكأنها لم تكتفِ بسرقة الأرض وتشريد أهلها وتسعى بكل قوة لسرقة العقول وتغييب الضمائر لكي تنجو بنفسها وتحافظ على كيانها وهو ليس بالأمر الغريب على كيان محتل يفتقر إلى شرعية قانونية وجذور تاريخية؛ لكن الغريب هو أن هناك من يسهم في ترويج الدعاية الإسرائيلية بطريقة غير مباشرة حينما ينقل كل ما تقذفه وسائل الإعلام الإسرائيلية حرفيًّا ومن دون تمحيص أو تدقيق في هدف الرسالة ومدى تأثيرها على الشارع الفلسطيني، وهو ما يدعونا لإعادة التفكير في كيفية التعامل مع الدعاية الإسرائيلية بمنطق ومسؤولية وطنية واجتماعية لكي نعيد البوصلة إلى مسارها الصحيح نحو فلسطين وفلسطين فقط.