تسارع الأحداث في الحلبة السياسية الإسرائيلية يزيد المشهد تعقيدًا وضبابية, فما إن يصدر تصريح لطرف من الأطراف حتى يُسارع الطرف الآخر إلى انتقاده أو تفنيده ودحضه, وما من خطوة أو موقف يتبناه طرف إلا ويُقابل بموقف موازِ من الطرف الآخر لإبطال مفعوله, وكأن الجميع في حالة صراع مع الزمن لاستباق الأحداث والتهرب من مسئولية الفشل المحتمل في تشكيل الحكومة للمرة الثانية، وإمكانية العودة للانتخابات للمرة الثالثة، فمعسكر اليمين بزعامة نتنياهو يسعى بكل قوة إلى إنقاذ مكانته والحفاظ على منصب رئاسة الحكومة ومزاياه, أما معسكر الوسط الذي يتزعمه حزب أزرق أبيض فيبذل قصاراه لاستغلال الفرصة التاريخية لانتزاع رئاسة الحكومة من معسكر اليمين بعد أن تفرد بها سنوات.
ما بين تمسك معسكر اليمين وإصرار معسكر الوسط تتضاءل احتمالات تشكيل الحكومة, خصوصًا بعد فشل اللقاء بين نتنياهو وليبرمان، بمعنى آخر: بعد استنفاد نتنياهو أساليب الخداع التي تمرس بها وفشل محاولات التخويف والإغراء تارة والإقناع والإيقاع تارة أخرى, ما قد يضطره إلى إعادة كتاب التكليف لرئيس الدولة، اعترافًا ضمنيًّا بفشله في المهمة، لكن نتنياهو كما عهدناه لن يُقدم على هذه الخطوة قبل أن يوصد جميع الأبواب أمام منافسه بيني جانتس، ويتحقق من سد الثغرات التي قد يستغلها لإنجاح مهمته في تشكيل الحكومة، وهو ما يُفسر إسراعه في تشكيل كتلة مانعة، ومطالبته أحزاب اليمين بتوقيع تعهد يقضي بإعادة ترشيحه للمنصب بعد الفشل المتوقع لمنافسه في المهمة, فضلًا عن المناورة التي قام بها حينما لمح بنيته إجراء انتخابات خاطفة داخل حزب ليكود لإحباط أي محاولة لإزاحته عن زعامة الحزب، بعد ظهور مؤشرات دالة وتحركات من مؤيدي منافسه داخل الحزب جدعون ساعر, أما في حال فشله في استغلال الفرصة الأخيرة التي يمنحها رئيس الدولة لأعضاء الكنيست للتوصل إلى صيغة توافقية وترشيح أحد أعضائها لتولي مهمة تشكيل الحكومة؛ فإن ذلك يعني أن الكنيست حلت نفسها بنفسها طبقًا للقانون, ما يُمهد الطريق لإجراء الانتخابات للمرة الثالثة دون أن يتحمل المسئولية المباشرة عن إعادتها وعن العواقب السلبية لاستمرار الفراغ السياسي, ولربما ستكون محاولته الأخيرة هي توحيد أحزاب اليمين أو غالبيتها -ومنها أتباع كاهانا- في إطار واحد لخوض الانتخابات القادمة في قائمة مشتركة، "قائمة فنية" تفكك بعد الانتهاء من الانتخابات مباشرة، كما حدث مع القائمة التي ضمت أحزاب اليمين القومي أخيرًا.
هذه المحاولة قد تأتي بناء على المعطيات التي تشير إلى انزياح المجتمع الإسرائيلي بوضوح نحو اليمين، ورغبة غالبيته في تشكيل حكومة مستقرة للتخلص من دوامة الانتخابات, وإنه سيسعى من طريقها إلى احتكار تمثيل جمهور اليمين، وقطع الطريق أمام منافسه للاقتراب من جمهوره التقليدي أو كسب بعض أصواته, لاسيما أن الأخير سيجد صعوبة في مواجهة ادعاءات نتنياهو أو تشكيل معسكر مواز لأنه سيضطر حينها إلى ضم أحزاب يسارية كحزب ميرتس وحزب العمل, ما يسهل اتهامه باليسارية وما تحمله من مدلولات سلبية في الصورة النمطية لأذهان غالبية المجتمع الإسرائيلي, وستضمن له هذه الفرصة عدم ضياع أصوات اليمين التي قُدرت بعشرات الآلاف خلال الانتخابات الماضية، بسبب عدم قدرة بعض أحزابه على تجاوز نسبة الحسم, وسيعمل في المقابل على استعادة المتفلتين من حزب ليكود ورص صفوفه من جديد، على أمل أن يتمكن من تحقيق مراده والحصول على عدد كافٍ من المقاعد تؤهله لتشكيل الحكومة مع شركائه التقليديين من الأحزاب الحريدية والدينية القومية, فهل ستكون هذه المحاولة طوق النجاة أم وسيلة للغرق والدخول في متاهات أخرى تزيد المشهد تعقيدًا, كما حدث خلال الانتخابات الماضية، حينما ظن أن ضمه حزبي كولانو وزهوت سيمكنه من تشكيل الحكومة دون الحاجة لمشاركة أحزاب الوسط أو الخضوع لابتزاز الأحزاب الصغيرة كحزب ليبرمان.