(1)
لا يزال يدور حديث متواصل في أوساط عديدة وبمستويات مختلفة عن حل الدولة، بعد أن أفشل الاحتلال عمليًّا وواقعيًّا أي إمكانية لحل الدولتين.
وفي تحليل لموقف المقاومة من الحلول المقترحة يجدر عند الحديث عن المقاومة أن نتحدث بالدرجة الأولى عنها قيمة عليا، تتجلى قيمتها _حقيقة_ في القضية التي تقاتل من أجلها.
فإذا كان الحديث عن فلسطين أرضًا ورسالة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بسياق رسالات سماوية من لدن أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) الذي عبر إلى الأرض المقدسة قادمًا من العراق، وقد حسم القرآن الكريم الجدال في كينونته وهويته بالنفي والإثبات {ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين}، فهذا التأكيد القرآني الجازم يقطع أي رواية لأمة غير المسلمين بهذه الأرض، وإن تسمت باسم نبي من أنبياء الله من ذرية إبراهيم الخليل كـيعقوب (إسرائيل) بن إسحاق (عليهم السلام)؛ فأرض فلسطين التي حلت فيها أقصى البركات، فسمي مسجدها "الأقصى"، ليس نسبة للبعد المكاني أو الزماني، ولكن لأنّه محل لأقصى البركات، وقد بارك الله فيها للعالمين.
وكان لهذه الأرض المقدسة معنى كبير يوم أسري بنبينا محمد (عليه الصلاة والسلام) إليها، ليعرج منها إلى الملأ الأعلى، في معجزة سجلها القرآن الكريم في سورة "الإسراء"، وقد أمّ في مسجدها بالأنبياء جميعًا، لتحمل معنى العالمية.
(2)
هذا الإيمان بهوية الأرض المقدسة (فلسطين) الذي لا يتسرب معه ريب ولا يخالطه شك هو ما جعل مواجهة أي اعتداء على هويتها بتزييف تاريخها، أو تهجير أهلها، أو مصادرة أرضها، أو تدنيس مقدساتها، أو إحلال الغرباء فيها، أو تهويد معالمها، أو غير ذلك مما يحاول فعله المحتلون، ومن يعينهم من العابثين؛ قيمة وطنية عليا، لكونها ارتبطت بمعانٍ دينية ترسي معالم الوعي الحضاري في ثقافتنا المستندة أساسًا إلى بعدها الديني الرسالي العالمي.
إنّ المقاومة قد تجسدت اليوم في برنامج تحرري واقعي، يُراغم الاحتلال الصهيوني في كل مكان حلّ فيه على الأرض المقدسة (فلسطين).
ويتجلى هذا البرنامج المقاوم في صورته المناهضة بقوة السلاح، والإعداد للمواجهة تلو المواجهة حتى يقضي الله أمره، ويحقق وعده في نصره لعباده المؤمنين، وإن تجلت هذه الصورة أكثر ما هي عليه في قطاع غزة؛ فإنّ كل الأرض الفلسطينية مرشحة لهذا اللون من المقاومة.
وتبدو تلك المقاومة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية من بيداء الشتات والتهجير القسري، وهي تظهر اليوم في مراكز دولية فلسطينية واعدة كمركز العودة، أو الروابط التي تشمل المجموع الفلسطيني في الدول العربية والأجنبية، وما تقوم به هذه المؤسسات والجمعيات من نشاطات وحراكات وحملات لمناهضة الاحتلال ومقاطعة منتجاته (BDs)، ولن يكون آخرها مؤتمر الشتات المعقود في تركيا بإسطنبول 25 فبراير، تحت عنوان: "فلسطين تجمعنا وإليها راجعون".
وتظهر المقاومة في صورة الحراك الجماهيري الثوري، وما ينتجه من مواجهات يومية بالحجارة أو القنص أو الطعن للمغتصبين من جنود محتلين ومستوطنين، وهذا الوجه من المقاومة تتصدره مدن ومخيمات وبلدات الضفة الفلسطينية.
وتتجلى المقاومة أيضًا في صورة المراغمة في عقر الأرض الفلسطينية المغتصبة منذ الـ48، ونشاهد منها الحفاظ على الدين والهوية الفلسطينية من حمأة التهويد، أو مواجهة العنصرية الشرسة التي تمارسها الدولة المصطنعة (إسرائيل) ضد كل من هو غير "يهودي أشكنازي"، وكان الرمز لهذا اللون من المقاومة الشيخ رائد صلاح الذي أخذ لقب شيخ الأقصى، وكذلك نذكر أحمد الطيبي الذي لم ينفك يقرع الغاصبين في برلمانهم المزعوم على أرضنا، ومن قبله الفيلسوف السياسي المحنك أ. عزمي بشارة، الذي يعتز بثقافته الإسلامية مكونًا رئيسًا في مكونه الحضاري.
وتجد المقاومة في صورة الالتحام بالمقدسات الدينية، والحفاظ على حرمتها من تدنيس التهويد أو العبث بها بالحفر من تحت جدرانها وأركانها، وهذه الصورة الأبلغ فيها مرابطو ومرابطات المسجد الأقصى المبارك، الذين كانوا مشعل الثورة في الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، ومبعث الانتفاضة الثانية (الأقصى)، والانتفاضة الثالثة (القدس).
(3)
إذن المقاومة تعرف جيدًا أنّ لها أهدافًا ستنجزها وفق قانون إلهي، وسنة كونية قائمة على الدفع والتدافع الذي فيه الصلاح والإصلاح، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}.
وإن أهداف المقاومة وممارساتها كما سبق بيانه واضحة، فهي لن تحيد عن تحقيقها، وقد بدأ يتشكل يقين كبير لدى كثيرٍ من المحتلين وقادتهم، بأنّ هذا الشعب الفلسطيني عميق في فهمه لمعاني الصراع، لا يمنعه الحصار ولا قمعه بالنار عن تحقيق مراده في (الحرية والعودة وتقرير المصير).
لذلك بدأ الكثير من قادة الاحتلال يفكرون في حلول لمشكلتهم بطرح حلول مجتزأة، أو ما يمكن أن يُسمى حلولًا مرحلية، وآخرون منهم بدؤوا يعرضون حلولًا نهائية.
وكان أبرز هؤلاء "أبراهام بورغ" رئيس الكنيست الأسبق، وقد التقى الرئيس عباس وأعضاء من قيادة السلطة في رام الله الأسبوع الماضي، ليعرض أفكار حل نهائي تقوم على ثلاثة مستويات: الأول منها ضمان حقوق وحريات متساوية لكل من يسكن ما بين النهر والبحر، والمستوى الثاني ضمان دولة مستقلة للفلسطينيين كاملة السيادة على حدود 4 من حزيران 67، والمستوى الثالث اتحاد فيدرالي يحول حالة الصراع والاحتكاك إلى تنسيق وتعاون بين الدولتين التي لا يفصل بينهما حدود.
أما الحل الذي طرحه عضو الكنيست "يؤاف كيش" فهو ما بات يجنح إليه اليمين الصهيوني بوجه عام، وبدأ يخطو نحوه بخطوات عملية، فيما بات يُعرف بالضم لأراضي الضفة الغربية، وحصر الكيان الفلسطيني في ما لا يتجاوز 38% من أراضي الضفة الغربية على أن يكون تحت حكم ذاتي يتبع كيان الاحتلال، بعد حل السلطة الفلسطينية هناك، وما يتزامن معه من حل للإدارة العسكرية.
أما قطاع غزة فإنه يجري الحديث عن إخراجه من هذا الطرح، بحيث يُصدر لحل مشكلته مع الإقليم بتضعيف مساحته خمسة أضعاف من أرض سيناء وأجزاء من النقب.
(4)
هذه المقترحات من الحلول وغيرها بات يجهد المحتل الصهيوني نفسه فيها، لأنه بدأ يدرك أنّ وجوده هو المشكلة على الأرض التي اغتصبها وهجّر منها أهلها.
وفي حين تدرك المقاومة أنه لا ينبغي بحال الانشغال إلا فيما يجب عليها إنجازه فقط، وفق برنامجها القائم على التحرير الكامل للأرض الفلسطينية، وعودة اللاجئين، وتقرير المصير لكل الفلسطينيين على أرضهم؛ هذا لا ينفي تعاطيها بإيجابية مع أية حلول مرحلية، أو مقترحات لحلول نهائية وفق منظار المصالحة الوطنية العليا المعتبرة.
ولتحقيق المصالح الوطنية وفق منظار معتبر يجب قيام وحدة وطنية على برنامج وطني _ولو بحده الأدنى_ يحافظ على الثوابت العليا، ويُجرّم بذلك أي تفرد بالقرارات المصيرية، ويكون معيارًا للفعل الوطني المشروع أو غير المشروع.
وهذا يُعطي بناء الوحدة أولوية قصوى نتجاوز بها واقع التفسخ في الجبهة الوطنية، الذي وصل إلى داخل الحزب الواحد والحركة الواحدة.
غير أنّ هذا الشروع في بناء البرنامج الوطني الشامل الجامع يوجب تصفية حالة العمالة بالجملة لمصلحة الاحتلال، وفق ما يُسمى "التنسيق الأمني"، وهو ما خلق تناقضًا في البنية الفكرية الثقافية لمؤسسات كان يجب أن تكون وطنية.
(5)
أما أن تطرح المقاومة أو من يقوم على برنامجها حلولًا سلمية أو مشاريع تسووية لتعرضها على الاحتلال وتنتظر منه ليوافق عليها أو يرفضها؛ فهذا _لعمرك_ يعكس أزمة واضحة في الدور، وفي منطق مسلكياتها.
ولربط هذا بالواقع إنّ (أوسلو) أبلغ مثال للتعبير عن التيه السياسي الذي وصل إلى حالة الارتزاق من الاحتلال نفسه على حساب القضية الوطنية، وقد كشف كبار أزلام هذا المشروع أنّهم كانوا قد وصلوا إلى شفا الانهيار، بعد أن عجزت قيادتهم عن سداد أجرة مكاتبهم وبيوتهم التي تؤويهم، في حين كان شعبنا بالداخل المحتل في حالة اشتباك مباشر ومتصاعد مع الاحتلال في القدس والضفة وقطاع غزة.