أكتب لكم كلماتي لا لأستدر عطفكم، فأُبكي عيونكم وأهز مشاعركم، ولكني أكتبها لتُدركوا جزءاً يسيراً من معاناة ذوي الأسرى القابعين خلف قضبان سجون المحتل.
تتردد كلمات أسير وأسر وأسرى على مسامعكم باستمرار، ولكني متأكدة أن كثيرين لا يعرفون عن الأسر إلا القليل، ولا يعرفون تفاصيل ما يعانيه الأسرى في المعتقلات.. وما يتعرض له ذووهم خلال زيارات الأسر من أصناف الامتهان إلا من عايش تجربته المُرَّة، وذاق صنوف حنظلها بنفسه.
معركة أبي ومعركتي الخاصة التي تدور رحاها بين سجان ظالم لا يرحم، وأسير مسلوب الحرية محتجز خلف قضبان صدئة، وابنته التي أنهك وجع الفراق قلبها. كنت صغيرة في الثالثة من عمري حين اعتقل والدي لأسباب أجهلها.. ما زالت حتى الآن صور "مغبّشة" لجنود مدججين بالسلاح يملؤون البيت ويعيثون فيه فسادًا ويقتادون أبي إلى جهة مجهولة مقيد اليدين.. ثم.. ينقطع شريط الصور في ذاكرتي، ويعود مرة أخرى ويذكرني بالممارسات البغيضة لزيارة سجن "هداريم" "وريمون" وغيرهما، التي تنقل فيها والدي خلال سنوات أسره العشر.
وما أدراك ما زيارة السجن؟.. يا من تقرأ كلماتي، اعلم أن زيارة السجن درب من دروب العذاب التي لا أستطيع الكفّ عن المضي فيها ما دام مهجة قلبي مغيَّبا خلفها. زيارة أذهب إليها وأنا أمتلئ بالحيوية والأمل، وأعود منها ذابلة حزينة تطبق الكآبة على قلبي.. ويلحُّ عليَّ سؤال: متى سيخرج أبي؟
أمي تقول إنه سيعود بعد مئة عام.. ولا أدري إن كانت جادة فيما تقول أم أنها تعبر عن مدى قهرها.
ساعات النهار الأولى عادة ما تكون عليلة النسائم، تبعث الأمل والتفاؤل، ولكني اعتدت أن أراها قاتمة تعبق قهرًا، فأنا لا أرى الفجر إلا في يوم الزيارة، فما إن يُعلي المؤذن صوته بالنداء لصلاة الفجر، توقظني أمي؛ حتى لا يفوتنا الوقت، ونتأخر عن الموعد.. نرتدي ما يتناسب مع الطقس في يوم الزيارة على عجل، ونجمع الأغراض التي سنحملها معنا، ثم ننطلق إلى مكان تجمُّع ذوي الأسرى حسب تعليمات الصليب الأحمر.. لتأتي مرحلة إحصاء الأعداد والتأكد من الأسماء والهويات حسب القوائم الجاهزة للتوجه إلى الحاجز العسكري.
ولمن لا يعرف الحاجز العسكري، فهو ثكنة عسكرية شديدة التحصين، تحيط بها الأسلاك الشائكة الجارحة وتتوزع الكاميرات الكبيرة المعلقة على أعمدة مرتفعة في كل شبر منها.. داخل الحاجز نسمع أصواتًا تُلقي علينا أوامر وتعليمات ولا نرى أشخاصًا، وإن رأيناهم يعتلون عوارض معدنية معلقة مثل الجسور فهم قناصة يوجهون فوهات أسلحتهم النارية المخيفة صوب صدورنا ونحن العزَّل المجردون من أي سلاح.
نصطف أمام بوابات حديدية عديدة دوَّارة يتحكم فيها مَنْ يختفون خلف الأبواب المعدنية السميكة تليها بوابات إلكترونية تكثر في المكان ويلحق بكل منها إحدى مراحل التفتيش الجسدي أو تفتيش الوثائق أو الأمتعة حتى نخرج من هذه الثكنة ونصل إلى حافلات الصليب الأحمر في الجهة الأخرى. وأرجو ألا تعتقدوا أننا نستطيع اجتياز تلك البوابات فور وصولنا.. أبداً.. بل علينا الانتظار لساعات عدة وقوفاً على أقدامنا حتى يبلغ منا التعب والسأم كل مبلغ، لينطلق جرس البوابة معلناً إمكانية دخول عشرة أشخاص يُفتَّشون ليُسمح بدخول عشرة غيرهم... وهكذا.
دوامة لا تنتهي من البوابات والأوامر حادة النبرة والتفتيش، لنجد أنفسنا بعدها وقد وصلنا إلى حافلات الصليب الأحمر التي تقطع بنا طريقاً طويلة بعيدة لنصبح أمام السجن الذي ندخل فيه في دوامة أخرى لا تقل بؤساً من التفتيش والتدقيق والفحص.. ليصبح بإمكاننا الجلوس داخل ساحة السجن انتظاراً للقاء.
تفصلنا عن والدي نوافذ زجاجية سميكة تعزل الصوت، وتسبغ على نفوسنا شعورًا بالغربة والإذلال.. ويصلنا به هاتف يزيد من عزلتنا وغربتنا وشعورنا بالقهر، ويلتهم الدقائق الخمس والأربعين المسموحة للزيارة بنهم عجيب لا يصدقه عقل.. حيث نُطرد بعدها من قاعة الزيارة بالأوامر الصارمة ذاتها، ويُغيّب حرس مدججون بالسلاح والدي وبقية الأسرى خلف باب يبتلعهم على عجل، لنعيد كرة الانتظار وطريق العودة إلى بيوتنا التي نصلها بعد أن ينشر الليل ظلمته على الكون وعلى قلوبنا.