أعلنت السلطة مرارًا وتكرارًا نيتها قطع العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال والتحرر من تحكمه باقتصادنا، لكنها لم تفعل شيئًا يعتد به، والحقيقة أن الاحتلال تمكن منذ النكسة من إحكام قبضته الاقتصادية بحيث يستحيل الفكاك منها مرةً واحدة.
تعمد الاحتلال أن يربط تفاصيل حياتنا اليومية به حتى يستطيع التحكم بنا أكثر، ليس فقط ليعاقبنا، متى ارتفعت وتيرة مقاومته، بل أيضًا ليخلق ظروفًا معيشية تشجع على الهجرة، كما خلق اقتصادًا تابعًا يوفر له الأيدي العاملة الرخيصة وسوقًا للبضائع الصهيونية.
وفي المقابل شدد الإجراءات على المستثمر الفلسطيني بحيث ترتفع عليه تكلفة الإنتاج، بل ربما يمنع بوضوح بعض المشاريع بالحجج والذرائع الأمنية.
استطاع الاحتلال إعادة تشكيل الاقتصاد الفلسطيني بحيث يصبح أكثر اعتمادًا عليه وأقل استقلالًا، بالتشجيع على العمل في المستوطنات وداخل أراضي الـ(48) بوظائف متدنية مثل: البناء والفنادق والنظافة، وربط شبكات المياه والكهرباء بالاحتلال، فعلى سبيل المثال كان توليد الكهرباء من طريق البلديات في الضفة وغزة، فأجبرها الاحتلال في السبعينيات بالقوة على إغلاق المولدات والربط مع "شركة الكهرباء القطرية الإسرائيلية".
بلغت أهمية التحكم الاقتصادي درجة أن الاحتلال رفض مناقشة قضايا المياه والكهرباء في اتفاقية أوسلو، وعدها من قضايا الحل النهائي مثلها مثل المستوطنات والقدس، وأصر على أن تفرض السلطة ضرائب مماثلة لما يفرضه الاحتلال (ما يعرف بالاتحاد الجمركي).
وفي المقابل لا نجد الوعي المطلوب فلسطينيًّا تجاه خطر الارتباط الاقتصادي بالاحتلال، فتجد من يسوغ العمل في المستوطنات والمشاريع التطبيعية الاقتصادية وشراء البضائع الإسرائيلية، فكيف سنقاوم الاحتلال إذا كان يتحكم بلقمة عيشنا؟!
أدت الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى إلى خلق حواجز بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، وتقلصت أعداد العاملين في الداخل المحتل والمستوطنات (بعد أن تجاوزت مائة ألف عامل 1987م)، خصوصًا خلال انتفاضة الأقصى وما بعدها.
لكن الاحتلال حرص خلال السنوات القليلة الأخيرة على تشجيع العمل في الداخل المحتل لشرائح من المجتمع بشرط ابتعادها عن المقاومة والمقاومين، وتزايدت أعداد تصاريح العمل الممنوحة من نحو ستين ألفًا لتصل اليوم إلى نحو مائة ألف، فضلًا عن التوسع في منح التجار وأصحاب الأعمال تصاريح لدخول الكيان الصهيوني، وبناء مشاريع مشتركة في مناطق صناعية مختلفة بالضفة.
بكلام آخر بدلًا من السعي إلى زيادة الاستقلال عن الاحتلال أصبحنا أكثر ارتباطًا به، وضيعنا مكاسب انتفاضة الأقصى التي وضعت حدودًا للعلاقات التجارية والاقتصادية مع الاحتلال، وأصبحنا نرى شركات تطبيعية تعمل لمصلحة الاحتلال داخل المدن الفلسطينية مثل الشركات التكنولوجية في روابي، ولا أحد يقرع ناقوس الخطر.
إذا كان قبول مبدأ العمل في المستوطنات والداخل خطأ ارتكب قبل عقود يصعب إصلاحه اليوم، فلماذا نسمح للمزيد بالتورط في هذا المستنقع؟!، علمًا بأن أعدادًا كبيرة من العمال يكون الفرق الحقيقي في راتبهم ضئيلًا، إذا أخذنا بالحسبان الرشاوى التي يدفعونها للحصول على تصريح، وتكاليف المواصلات العالية، لكنهم لا يفكرون بالبديل لأن الناس يقولون لهم: "هذا شيء عادي".
المشكلة تكمن في انعدام وعي المجتمع وقبول الأمر الواقع، فنجد من يدافع عن شراء المستوطن من بعض القرى الفلسطينية في الضفة، أو أن يكون لطبيب أو مهندس زبائن من المستوطنين، أو العمل في بناء جدار الفصل العنصري.
يجب أن نعيد بناء الحاجز النفسي بين الفلسطيني والمستوطن، ونمنع المزيد من الانزلاق في مستنقع العلاقات الاقتصادية المشتركة مع الاحتلال، ويجب مقاطعة البضائع الصهيونية، صحيح أن مقاطعتها مقاطعة تامة غير ممكن، لكن نقاطع كل ما يوجد له بديل (فلسطيني أو مستورد)، وبعدها نفكر بحلول عملية قادرة على التحرر من قبضة الاحتلال، وبناء اقتصاد مقاوم.
هنالك حلول كثيرة للبدء بالتحرر من القبضة الاقتصادية الصهيونية، مثل: تشجيع الزراعة والإنتاج المحلي، واستخدام الطاقة الشمسية، والتعامل فقط مع المنتجات الفلسطينية والمستوردة، وغيرها الكثير، لكن الأهم أن نصل إلى قناعة أن هذه ضرورة قصوى، وليست ترفًا.