لم يترك ناصر خليل مستشفى بغزة إلا وتنقل بين أروقته، بحثًا عن أي طبيب يشخص حالة نجله أحمد ويعالجه.
كان ذلك في عام 2015م، آنذاك كان أحمد طفلًا صغيرًا لم يتجاوز من عمره عامًا، حمله وأخذه باحثًا عن أمل بسيط وكلمة تزيل عنه الهم الجاثم على قلبه وتطمئنه على فلذه كبده.
لكن الأطباء أجمعوا أنْ "طفلك يعاني استسقاء دماغيًّا، والشلل مصيره حتى الموت".
هذه كلمات جعلت خليل يحمل طفله ويعود به إلى منزله، يرضى بقضاء الله وقدره، يرسم في عقله سيناريوهات جلها مؤلمة من أجل طفله أحمد، دون أن يعلم أن لطف الله ورحمته وسعا كل شيء، وكان من ضمنها ذلك الطفل.
اليوم في 2019م أصبح سن أحمد (6 أعوام)، وقد تجهز ورافق والده إلى السوق واشترى ملابس المدرسة معه، بعد أن أصبح فتى مثل غيره من الفتيان، يمشي على قدميه يتحدث مع من حوله ويناقشهم، ليكسر توقعات الأطباء بأن جسده سيبقى أسيرًا للشلل مدى الحياة.
لكن إن عدنا إلى ذلك العام الذي رجع فيه والد الطفل أحمد إلى البيت الكائن في عزبة بيت حانون، شمالي قطاع غزة، حيث أخبر زوجته بما قاله الأطباء، ومرت أيام وشهور على أحمد وهو على الحال نفسها دون أي تغير يذكر، حتى جاء اليوم الذي كشفت جولة بحث ميداني لموظفين في الإغاثة الطبية على البيوت التي يعاني أطفالها مشاكل صحية، لتجد أحمد على حاله مصابًا بشلل كامل، وتتكفله وهو في سن سنة وثمانية شهور.
يقول خليل لصحيفة "فلسطين":" أتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله، لم أكن أتوقع أن يهتم أي أحد بحال ابني، وحتى بعد أن عرضت الإغاثة الطبية التكفل به لم أكن أضع في بالي أن يتحسن طفلي إلى الحال الذي وصل إليه الآن".
ويضيف: "بدأ الأمر مع المتخصصين في جلسات العلاج الطبيعي الوظيفي والتربية الخاصة مدة عامين ونصف العام، وهو ما جعله قادرًا على المشي والتحرك، ثم دمجه في رياض الأطفال ليتعلم القراءة والكتابة والألوان والأشكال مثله مثل أقرانه من الأطفال".
ويشير خليل إلى أن الإغاثة عملت مع ابنه وفق خطة دقيقة للتعامل معه على مستوى الجسد والعقل، حتى وصل أحمد إلى ما هو عليه الآن يتجهز ليدخل المدرسة دون أي مشاكل، سوى بعض المشاكل في عينيه وصعوبة في الركض.
ويؤكد أنه راض تمام الرضا بما وصل إليه حال ابنه أحمد، وأنه لم يكن يحلم في يوم من الأيام بأن يقف على قدميه ويتحدث مع الجميع أفضل من أي طفل آخر، لافتًا إلى أن طفله يصلح أن يعمل صحفيًّا أو مذيعًا في التلفاز بسبب كثرة حديثه.
إعاقة سمعية
أما الطفلة سلمى شتات التي تبلغ من العمر (7 أعوام) فكانت مشكلتها تتمثل في فقدانها السمع بعد أن وقعت على رأسها وهي في سن العام ونصف العام، لتصاب بكسر في الجمجمة وفقدان السمع بمستوى متوسط وشديد.
وتقول والدتها سلمى شتات في حديث إلى "فلسطين": "إن إصابة سلمى في رأسها أثرت على سمعها إذ لاحظت عليها بعد أسبوعين أنها لا تنتبه إليّ وأنا أنادي عليها، وبعض الفحص تأكد لنا فقدانها السمع في كلتا أذنيها".
وتضيف: "ركبت سماعة أذن خاصة لها، وتوجهنا بها للإغاثة الطبية لعقد جلسات نطق وتعلم الحروف والكلمات ومسك القلم، وغيرها من مهارات معرفة الأعداد والحروف والأشكال والأحجام والألوان وأعضاء الجسم".
وتوضح أن سلمى دخلت المدرسة هذا العام وهي تذهب برفقة أختها التي تكبرها بعدة أعوام، مشيرةً إلى أنها لا تزال تشعر بخوف وتوجس كبيرين من ذهابها إلى المدرسة، لكن تريد أن تضمن أن تحصل ابنتها على فرصتها في الحياة والتعلم والعيش كأي طفلة أخرى.
الطفلة إيمان أغا هي كذلك تتجهز لدخول الصف الأول بعد أن حصلت على تأهيل على مستوى العلاج الطبيعي والوظيفي، إضافة إلى التربية الخاصة على أيدي مربيات متخصصات في هذه المجالات.
وتقول والدتها نداء أغا في حديث إلى "فلسطين": "إيمان ولدت وهي تعاني ضمورًا في الدماغ وتخلفًا عقليًّا بسيطًا، لذلك دمجت في مركز (نعم نستطيع) لتأهيل ذوي الأشخاص ذوي الإعاقة العقلية لتكتسب خلال وجودها هناك الكثير من المهارات الحياتية والعلمية".
وتضيف: "إيمان أصبحت تمتلك العديد من المهارات التي تحتاج لها عند دخولها إلى المدرسة، وقد سجلت فيها قبيل عدة أيام"، مشيرة إلى أنها تشعر بالسعادة من أجل طفلتها التي ستذهب إلى المدرسة كغيرها، ولكنها في الوقت ذاته تشعر بالخوف خشية أن يصيبها شيء في المدرسة.
مشروع مهم
في السياق ذاته أكد مدير برنامج التأهيل المجتمعي التابع للإغاثة الطبية الفلسطينية مصطفى عابد أن الإغاثة الطبية عملت على مدار عامين ماضيين على التعرف إلى نقاط الضعف ومعالجتها ونقاط القوة لتعزيزها عند ذوي الإعاقة.
وقال لصحيفة "فلسطين": "إيماننا بحق ذوي الإعاقة في التعليم والحياة والدمج في المجتمع دفعنا إلى تصميم برنامج خاص بتأهيلهم في رياض الأطفال، تمهيدًا لدخولهم المدارس الحكومية ومدارس (أونروا) والاختلاط بالمجتمع المحيط بهم".
وأضاف عابد: "ما يقرب من 15 طفلًا من ذوي الإعاقات سينضمون إلى زملائهم الطلاب العاديين في المدارس، خاصة بعد عملية تأهيلهم وتأهيل وذويهم من العائلة لدخولهم المدارس"، لافتًا إلى أن الإغاثة الطبية ستبقى متابعة لحالة كل طفل يخرج من عندها إلى المدارس بالزيارات الشهرية في المدرسة والمنازل".
وذكر أن الإغاثة عملت على إدراج هؤلاء الأطفال الطلبة داخل اللجان الصحية، والمرورية والكشافة في المدرسة، لتعزيز دور الطالب التشاركي في مجتمع المدرسة، وزيادة فهمه للمحيط الذي يعيش فيه.
ونبَّه عابد إلى أن عمل الإغاثة الطبية على هذا المشروع حقق فوائد إيجابية في جانب الإدارة التعليمية التي تقبلت استقبال هؤلاء الأطفال لديها في المدارس، وفي جانب الطلبة العاديين الذين أبدوا استعداداهم للتعامل مع الأطفال ذوي الإعاقة وعدم تخوفهم منهم.
وأكمل: "أولياء الأمور أصبح لديهم وعي كامل بحق أبنائهم بالدمج في المدارس العادية، إضافة إلى حالة من الرضا والتقبل من العملية التعليمية متمثلة في المدارس، والطلبة، والمدرسين، والوزارة ومديريات التربية والتعليم".
وأشار عابد إلى أن فئة ذوي الإعاقة كانت محرومة في السابق حق الوصول إلى التعليم بسبب عدم اقتناع الأهل بأهمية التعليم لهم، وتخوفهم من أي أذى يمكن أن يلحق بأبنائهم في حال اختلطوا بمجتمع خارج منزلهم، إضافة إلى عدم وجود مؤسسات لتأهيل هؤلاء الأطفال على الشكل الصحيح.
واستدرك: "ولكن الآن أصبح لدى أولياء الأمور وعي كامل لدمج أبنائهم في المدارس، إضافة إلى رضا كبير وتقبل من القائمين على العملية التعليمية لهذه الفئة لانضمامها إلى الدراسة بشكل طبيعي".
وشدَّد عابد على أن الإغاثة ستبقى تتابع هؤلاء الأطفال بعد انضمامهم إلى الدراسة في المدارس العادية، ومن المقرر أن تنظم زيارة شهرية لهم في المدرسة والبيت لتبقى على اتصال دائم ومباشر مع الأطراف المتعلقة بالأطفال ذوي الإعاقة".