المفارقة صعبة جداً بين ما أثمرته المقاومة في غزة وما أثمرته السياسة في أوسلو ، الشجرة التي زرعتها اليد الفلسطينية في الأولى تختلف كليا عن تلكم الشجرة ، والتي زرعتها أيضا يد فلسطينية ، ولكن هي تجارب الحياة الغريبة والتي بتنا نرى من ثمراتها اليوم وقد انكشف غبار المعارك الكلامية والمنازعات الإعلامية ولم يعد متسعا من الوقت لأي اجتهادات سياسية لم تقف على سنن التحرير وتداول الأيام بين الناس .
أما الشجرة الاولى فكان من ثمراتها شطب الوجود الاستيطاني في قطاع غزة وكم كان مؤلما أن يغادر المستوطنون مستوطنة "نتسريم" والتي وصفها القادة الصهاينة بأن درجة بقائها واستمرار وجودها عندهم تماما كتل أبيب ، لم يعد هناك استيطان في غزة ولم تعد هناك أي معسكرات جيش او قواعد عسكرية ، كله انسحب عن بكرة أبيه من غير تلكؤ أو مراوغة أو أي لف ودوران .
الشجرة الثانية لم يعد هناك من جهد أو قدرة على مضاعفة الاستيطان الا أثمرته شجرتهم الملعونة شجرة أوسلو ، شرّشت وفرّعت وتفرعنت ، في القدس وضواحيها وفي كل مكان اشار عليه حاخامهم ذهبوا اليه وشيدوا الاف الوحدات الاستيطانية وصار لها اسم وتاريخ ومستقبل تليد .
الشجرة الاولى أثمرت ثقافة مقاومة ، تستشعر التحدي وتغدو قدما لتكون على قدر تهديدات المشروع الصهيوني الإحلالي الذي يريد استئصال شأفتنا كلية وانتظار الفرصة المناسبة فلا ردّ عليه الا بمقاومة على قدر التحدي وشعب مقاوموأمة ترفضه وتصرّ على رفضه من هذه المنطقة ، انتجت هذه الشجرة ابقاء وهج القضية قويا في نفوس الناس : القدس والعودة ورفض الاستيطان والاحتلال جملة وتفصيلا . أنتجت معادلات وتوازنات في الردع والرعب يحسب لها الاحتلال الف حساب .
بينما الثانية فقد أنتجت ثقافة التداعي للراتب والمراتب والوظائف والبزنس واشعرتنا ان القضية قد انحلت عقدتها او في طرقها للحلّ ، نقلنا اتفاق اوسلو ، باختصار من حالة الدوران حول القضية الى الدوران حول الاشياء ، واصبح هم كل واحد منا أن يعيش حياته في ظل وضع معيشي جيد بعيدا عن الاحتلال ومشاكله . جعلتنا اتفاقية اوسلو نتثاقل الى الارض والرضى بالعيش في حدود الانا الضيّقة ونبتعد بالتالي عن الهمّ العام وكل ما ينغّص علينا حياتنا ويغضب الاحتلال منا .
لقد أثمرت الشجرة الاولى قيما عظيمة في حياتنا ، فيها تتكرر مفرداتها وتضيء لنا سماءنا وتصنع لنا سقفا عاليا : الحرية ، الكرامة ، السيادة ، الاستقلال ، العزّة ، توازن الرعب ، مقاومة المحتل ، وهذه ارتداداتها تسع العالم كله ويستجيب لها كل أحرار العالم بما يضعنا بحالة مشروعة ومفهومة عالميا .
وشجرة أوسلو أيضا لها قيمها ، التعايش السلمي ، جسور التعاون بين الشعبين ، الحوار ، التفاوض ، التنسيق ، الارتباط ، بطاقات المغنطة وال vip والتصاريح والشارع الالتفافي والحاجز الالكتروني ... الخ وكان لها ارتداداتها التي أوصلت دولا عربية الى أن تتجرأ على التطبيع علنا وتبادل رسائل الغرام مع زعماء دولة الاحتلال واستضافتهم والترحيب بهم ولم يبق الا بأن تصبح القضية المركزية الاولى للعرب هي خطبة يد عروستهم التي تسمى :" اسرائيل " .
واذا قلنا إن الخيار الاول قد نتج عنه قتل ودمار وهلاك بينما الثاني فقد نتج عنه أمن وسلام فهذه مقولة غير صحيحة ، الاعتقال في قطاع غزة اصبح نادرا جدا بينما ما اعتقله الاحتلال في الضفة من اوسلو لليوم قرابة مائة وعشرين الف معتقل ، والقتل في الضفة لم يتوقف وكذلك هدم البيوت وزد عليه بنيانهم الاستيطاني الذي تضاعف اضعافا كثيرة .
وحجر الاساس في هذه المفارقة هو ما بدأته في هذا المقال : سنن التحرير ؟كيف نزحزح الاحتلال ونجبره على التنازل عن أرض احتلها ؟ واضح بأنه لن يتزحزح الا اذا أصبحت كلفة الاحتلال باهظة الثمن فانسحابه من غزة ومن جنوب لبنان كان على أساس هذه المعادلة ، بينما في الضفة وفرت له اتفاقية اوسلو احتلالا آمنا مريحا غير مكلف ولا مزعج بل توفرت له كل أسباب البقاء وأن يبيض ويفرّخ المزيد من الاستيطان والهيمنة والاستطالة طولا وعرضا بما يحلو له ، لقد وصل الامر أن يصرح نتنياهو بضم غور الاردن ومما يشجعه على هذا هو هذه الشجرة الملعونة التي ارست قواعدها ورسخت جذورها في حياتنا وأثمرت كل هذا الصلف .
سنن التغيير والخلاص من الاحتلال حاسمة قاطعة لا تحابي أحدا والمفارقة جلية وواضحة كرابعة النهار وغسق الليل .