فلسطين أون لاين

​يا آدم لا تكن سياسيًّا

ظننت في طفولتي أن السياسة قيمة عظيمة ومرتبة جليلة يرتقي المرء بالوصول إليها أو التداول فيها أو القرب من روادها، وأنها للكبار من العقلاء والمفكرين العظام، كنت أعتقد أنها ترفع شأن أقوام، وعنوان وطنية ونضال لآخرين، كنت أحلم حين أكبر أن أكون سياسيًّا مرموقًا كأحدهم، لي كلمة تُسمع وشخصية تحترم، كنت أعتقد أنني بحاجة لعشرات السنين من الإعداد والتعلم وعشرات من الشهادات والدورات التأهيلية.

ظننت أن المشوار طويل وشاق، فأنا من عائلة مستورة الحال، فارسها لم ينل قسطًا من التعليم، لكنه زرع فينا عشق العلم وحب المتعلمين واحترامهم، زرع فينا أن نكون قيمة متعلمة متفوقة بارزة، ظننت أنني بحبي للسياسة أحقق حلم أبي وأجبر كسر أمي، هكذا بدأ حبي للسياسة منذ الطفولة، ومع مرور السنين سافرت وتنقلت ورأيت وسمعت لكثيرين وكانت المفاجأة، لم يكن السياسي رجلًا مختلفًا متعلمًا تعليمًا عاليًا متميزًا، ربما كان صاحب تجربة عميقة وشجاعة بارزة، وتمضي بي الأيام ويا ليتها توقفت ولم تمض بي قط، اكتشفت أن السياسي طفلٌ كبيرٌ، بارعٌ في نظم الكلمات، غريب في نظراته العميقة، إن تكلم عَلا صوته، وإن سكت صمت صمتًا مريبًا أصمت من حوله، هذا هو السياسي، لتمضي الأيام مرة أخرى لأجد أن السياسة مراهقة وصراع، كذب ونفاق، وخروج من سياق فن الممكن إلى قهر المواطن، وبدل أن يسوس المواقف والأحداث ساق الإنسان ليكشف كل زيف عن شخصيته، وأن الكلمة تحمل بين طياتها معاني ومصطلحات عجيبة غريبة لا تليق بالإنسان ليُعلن من جديد حالة انفصام بين الإنسان الصادق صاحب اليد النظيفة العفيفة والسياسي، ومن يومها ماتت الفكرة وقُتلت الرغبة وتحطمت الآمال، وبقيت القيمة وحب المعرفة وعشق العلم والتعلم.

يا ولدي، لو جاءتك فرصة لتكون سياسيًّا فلا تخدعك المسميات والقشور المنمقة والكاذبة، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وصلّ واستخر، ثم ارفض رفضًا قاطعًا؛ فالسياسة لا تبقِ أحدًا على حاله، فالسياسة لا أخلاق فيها، والغاية تبرر الوسيلة، والوسيلة قذرة، والعدو غدار، والصديق قد انهار، لأصرخ بصوت عالٍ:

يا ولدي، ابحث عن ذاتك بعيدًا عن كلمات مسمومة وألفاظ قذرة ومصطلحات مغلوطة، وابتسامات مغشوشة، وسموم مبثوثة، في جملٍ محطمة على أبواب نفوس مريضة أرهقتها لحظات عزة عابرة، فلم تُبقِ لها إلا الألم والحسرة، ومزيدًا من الهروب والإصرار على ألا تكون.

يا ولدي، كن أنت بلا إضافات مزيفة، بل كن الحقيقة والصدق، الحليب الذي شربته من صدر فلسطين، كن الجمال والدفء كما حبات البرتقال من حقول غزة، كن صارمًا كالليل لا تقبل ضوءًا، كن كالشمس للظلام مبددة وكالقمر سراجًا منيرًا، كن ما تشاء ولا تكن سياسيًّا.