العلاقة بين السلطة والمال متجذرة تاريخياً ونظرياً وعملياً؛ فالسلطة والمال يسهمان، بشكل جوهري، في تشكيل ملامح نظام الحكم وسياساته الاجتماعية والاقتصادية. وتؤشر علاقتهما إلى مدى مساهمتهما في الوصول إلى التحرّر والانعتاق، أو ديمومة الظلم والاضطهاد. ظهرت هذه العلاقة بين السلطة والمال وما نشأ عنها من بروز للنخب السياسية والاقتصادية في الحالة الفلسطينية جلية في عمل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين وبنيتيهما، فقد تبنت السلطة، منذ نشأتها، شكلا من أشكال النموذج النيوليبرالي لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية.
وحَلم صانعو القرار الفلسطيني بتحويل اقتصاده إلى اقتصاد أشبه باقتصاد سنغافورة وهونغ كونغ، معتمدين على أسس سياسات "إجماع وما بعد إجماع واشنطن"، وقد اعتُمِدَتْ هذه الأسس نتيجة رغبة السلطة في تبني الخطاب الأيديولوجي المقبول لدى مجتمع المانحين الذي سيسهل إمكانية الحصول على الدعمين المالي والسياسي، كما اعتقدوا. ولكن هذا النموذج المتبنَّى أهمل مرحلة إنشاء قطاع عام يؤسّس لعملية تنموية رصينة؛ فإطار اتفاقية أوسلو لم يُعطِ السلطة الفلسطينية أي قدر حقيقي من السيادة والسيطرة، كما أن مشروع "بناء الدولة" كان مؤطّراً بشبكة فساد مالي وإداري معقدة، ونمط حوكمة شخصاني فرداني ريعي زبائني.
على مدار العقود الماضية، يعاني الاقتصاد الفلسطيني عدة تشوهات وفجوات بنيوية، ويبقى اقتصاداً تابعاً، بل محتوىً من قوة الاحتلال واقتصاده، وتبقى علاقات السوق محدّدة بعلاقات القوة التي كرسها ويكرسها الاحتلال يومياً، فالغياب الكامل للسيطرة على المقومات الأساسية للاقتصاد المحلي، وغياب السيادة السياسية لم ينتج ذلك إلا اقتصاداً محكوماً بسقف اتفاقيات سياسية اقتصادية بائسة وجائرة بحق الفلسطينيين، وأوجدت اقتصاداً يعتمد، في بنيته الأساسية، على الاستهلاك، وليس على الإنتاج. وبالتالي منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، يعتمد الاقتصاد على المساعدات الدولية من أجل ديمومته، وعلى النشاط الاقتصادي المكبل والمقيد بأنظمة تَحَكُّم المستعِمر الصهيوني.
فثمة تشوهات واختلالات عدة في هذا الاقتصاد، جزء منها ناتج عن منظومة أوسلو وترتيباتها، والآخر سياساتي بطبيعته. إذ تتضح التشوهات العميقة في هياكل الإنتاج من خلال تدني مساهمة القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي الإجمالي والتشغيل والصادرات. أما التشوهات في سوق العمل الفلسطينية فتتضح جليةً من خلال عجز سوق العمل الفلسطينية عن إيجاد فرص عمل لتقليل النسب العالية من البطالة، ومن خلال الاعتماد على السوق الإسرائيلي للعمل، سواء في المستعمرات أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1948 وما ينتج عن هكذا اعتمادية.
ثمّة تشوهات أخرى تتعلق بالعلاقات الاقتصادية والتجارية الفلسطينية مع العالم الخارجي، وأخرى تتعلق بالموارد والمرافق العامة، وثالثة تتعلق بالنسيج المجتمعي، وبنشوء النخب التي تربطها علاقةٌ مع السلطات، سواء السلطة الفلسطينية أو سلطة الاحتلال. كذلك سعت منظومة أوسلو إلى إيجاد سلطة تابعة من خلال إحداث فجوة مزمنة في الموارد المالية للسلطة وموازنتها، وجعلها دوماً تعاني عجزاً كبيراً تقوم المساعدات الدولية المشروطة بملء جزء منها لا بأس به.
لم تكن حالة التبعية هذه فقط بسبب الإجراءات الإسرائيلية من إغلاقٍ للمعابر، وهدم البنية التحتية، والتوسع في الاستيطان وإيجاد حالة كولونيالية وجزر متقطعة في الأرض الفلسطينية المحتلة، أو بسبب اتفاق باريس الاقتصادي وشروطه فحسب، وإنما أيضاً بسبب النهج الأيديولوجي والعملي الذي تبنّته السلطة الفلسطينية، والذي تعاطى وتفاعل مع بنى التطبيع الاقتصادي والمناطق الصناعية المشتركة، ومنتديات رجال الأعمال المشتركة، والذي بدوره كرّس حالة التبعية والتعاطي والاندماج مع الأمر الواقع.
لم تستطع هذه الفجوات والتشوهات في الاقتصاد الفلسطيني، إضافة إلى حالة التبعية الاقتصادية وفقدان السيطرة أو السيادة، إيجاد حالة تنموية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بل أوجدت حالة من اللاتنمية في واقع الأمر، فعملية اللاتنمية تعني، في ما تعنيه، التقطيع المقصود والمنهجي للاقتصاد الأصلي من قبل اقتصاد مهيمن، بحيث لا تكون الإمكانات الاقتصادية – والاجتماعية أيضاً – مشوّهة فحسب، بل محرومة أيضاً. وعلى الرغم من المبالغ الكبيرة من المساعدات المالية الدولية، إلّا أن المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية تعكس الوضع المزري الذي يعيشه المواطن الفلسطيني والحالة التنموية الفلسطينية، فقائمة مؤشرات اللاتنمية تطول، ولكنها في المحصلة تشير إلى نتيجة واحدة، مفادها أن الحالة الكولونيالية التي يعيش الفلسطينيون تحت سيطرتها توجب عليهم اتباع نموذج تنموي - اقتصادي يراعي هذه الحقيقة والتباين في ميزان القوى، ويستبدل الفهم التقني الرقمي للعملية التنموية. إذ إن إحدى أهم المشكلات التي تواجه العملية التنموية الفلسطينية بطبيعتها مفاهيمية تتعلق بشكل أساسي بتعريف العملية التنموية نفسها، فالأقطاب الرئيسة للعملية التنموية الفلسطينية ما زالت تعمل وتؤمن بأن نجاحها بمساهمتها في العملية التنموية يقاس بالنمو الاقتصادي المتحقق، ومدى مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي (هوس النسبة المئوية). بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويدّعي بعضهم أن النمو الاقتصادي هو رديف لعملية تنمية مستدامة، على الرغم من الاحتلال، فجل التركيز في الخطاب التنموي الفلسطيني السائد، والذي ينتمي إلى المدرسة الفكرية النيوليبرالية يركز على الفهم التقني الميكانيكي لكيفية إحداث نمو اقتصادي، وليس تنمية اقتصادية أو تنمية اقتصادية - اجتماعية مستدامة.
أثبت هذا التعريف والفهم المختزل للعملية التنموية بؤسه في بقاع عديدة على مر العقود الماضية، وفي الحالة الفلسطينية منذ تأسيس السلطة. وعليه، حان الوقت لتبني فهم مغاير للعملية التنموية، والذي يعرّف التنمية ويفهمها على أنها عملية تراكمية، تكاملية، اقتصادية - اجتماعية - سياسية، تسعى بالأساس إلى تحرير الإنسان من حالة التبعية وامتهان الكرامة الإنسانية نحو الانعتاق والحرية، من خلال تحريره من حالة الفقر واللامساواة، والاضطهاد والخوف، وتمكينه في أرضه وتوسيع خياراته وإمكاناته وقدراته، بحيث تصل حتى إلى ضمان شعوره بالسعادة أيضاً، فالسير في رسم استراتيجيات للتحرّر والتحرير والانعتاق والخلاص من الاحتلال، بدلاً من التعايش معه وإدامته، يتطلب فهماً اقتصادياً تنموياً يضع في صميمه أسس المقاومة والتحرّر والكرامة الإنسانية، فإنْ لم يكفل الفلسطينيون أنفسهم الكرامةَ في تنميتهم لن يكفلها لهم أحد.
العربي الجديد