أدى توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، قبل أكثر من عقدين، إلى ظهور جذور نيوليبرالية اقتصادية كخاصية تعرّف الاقتصاد الفلسطيني وعملية التنمية الاقتصادية والمجتمعية، فقد اشترط إطار أوسلو الاقتصادي على السلطة تبنّي النيوليبرالية أيديولوجية رئيسية في المجالين، السياسي والاقتصادي. وينص القانون الأساسي الفلسطيني على قيام النظام الاقتصادي في فلسطين على أساس مبادئ الاقتصاد الحر، ليضمن ذلك الدور الريادي للقطاع الخاص والنخبة الرأسمالية. وتم التأكيد للمجتمع الدولي أن تبني هذا التوجه كان أساسيًا في بنية السلطة الفلسطينية، وفي اعتمادها على المساعدات الدولية.
وكان المبرر الفلسفي لإطار أوسلو الاقتصادي تحسين مستوى المعيشة للفلسطينيين، وتشجيعهم على المشاركة في عملية (السلام)، والحفاظ على استدامة (السلام) بتحقيق مكاسب مالية منه. وكان شعار النموذج معادلة خطية: استثمار أموال أكثر لجعل الفلسطينيين يشعرون بصورة أفضل اقتصاديًا للتسهيل عليهم في تقديم تنازلات سياسية. وفكرة المكاسب هذه مشتقة من إطار (السلام) الاقتصادي الذي يسعى إلى الوصول إلى حلول اقتصادية لمشكلات سياسية، وتطبيع العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر من خلال الشراكات والتعاون.
وبتبنّي هذا النموذج، فشلت السلطة بلعب دور تنموي رئيس، بل عملت ضمن إطارٍ يتسم بشبكةٍ معقدةٍ من الفساد والمحسوبية، وأسلوب مشخصن من الحكم، تبنَّى نموذجًا اقتصاديًّا يسعى إلى تحقيق المكاسب، من دون تحقيق الفائدة للمجتمع. ومن ثم ساعدت السلطة الفلسطينية، بصورة مباشرة وغير مباشرة، في تحقيق واحدٍ من أهداف الاستعمار من خلال تحقيق الثروة الفردية لبعض الأشخاص، والفقر والإفقار الوطني للجميع.
وتكرست الأجندات الاقتصادية النيوليبرالية خلال العقد الماضي، واكتسبت الزخم، بسبب التحولات السياسية بعد الانقسام الفلسطيني الداخلي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. واستخدمت السلطة الفلسطينية الفكر النيوليبرالي اقتصاديًا صراحة، لتغليف مشروع بناء الدولة، والسعي إلى الحصول على موافقة المجتمع الدولي. وكانت للنيوليبرالية الفلسطينية نكهتها الخاصة، بسبب ظروف الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، حيث لا يمتلك الفلسطينيون الأسس لتنفيذ السياسات النيوليبرالية ذات المقاس الواحد، لافتقارهم إلى السيادة أو السيطرة على الحدود أو عملة محلية أو سياسة تجارة مستقلة، أو بنك مركزي، أو حماية لحقوق الملكية أو حرية الحركة للعمال أو البضائع.
وكانت النيوليبرالية بنكهتها الفلسطينية تعني، في ما تعنيه، سيادة نموذج التكنوقراط على النموذج الوطني، وإنجاز أسس السلام الاقتصادي من خلال النمو بقيادة القطاع الخاص، وتأسيس مؤسسات بيروقراطية متطلبا مسبقا للاستقلال، وقبول تطبيع الاحتلال، والتحول نحو الاستبداد والأمننة. ولوضع هذا التحول الاستبدادي في السياق، ربطت النيوليبرالية المطالب الأمنية الإسرائيلية بالنمو الاقتصادي الفلسطيني. ويعني هذا التبادل بين أمن المستعمِر والنمو الاقتصادي للمستعمَر، هيمنة إسرائيل اقتصاديًا وعسكريًا، وتكريس الاستبداد الفلسطيني لتلبية المطالب الأمنية الإسرائيلية.
وعليه، آن الأوان لتبنّي نهج اقتصادي جديد يفهم التنمية باعتبارها عملية تراكمية وتكاملية واقتصادية واجتماعية وسياسية، تسعى، بشكل رئيس، إلى تحرير البشر من الاتكال والاعتمادية والإذلال، من خلال تحريرهم من الفقر وانعدام المساواة والخوف والاضطهاد، وتمكينهم من زراعة أراضيهم وتوسيع خياراتهم وقدراتهم وإمكاناتهم لضمان سعادتهم. وعليه، يرفض هذا النموذج والفهم البديل فكرة الوحدة الاقتصادية مع القوة المستعمرة، فالاقتصاد أكثر من مجرد تعاملات نقدية لتحقيق أرباح مالية، إذ إنه امتدادٌ لنمط حياة الشعب.
لكن هنالك متطلبات مسبقة لضمان جدوى واستدامة نموذج اقتصادي بديل كهذا، غير مقتصرة على الحاجة لإعادة تشكيل وإيجاد قطاع المساعدات الدولية بطريقة عملية، وإعادة تعريف التنمية بصورة مفاهيمية، وتوظيف التوجهات المحلية الأصيلة لسبل العيش والحوكمة، ومقاومة مصفوفة السيطرة الإسرائيلية ورفضها بشكل أكبر من مجرد الخطاب، ومقاومة وتحدي أي شكل من الاستبداد الفلسطيني. بكلمات أخرى، يحتاج الفلسطينيون اقتصادا يعزّز التضامن والروابط الاجتماعية، ويراكم رأس المال الاجتماعي والبشري والتماسك الوطني. ويمكن تحقيق ذلك بإخضاع السوق والتعاملات في السوق وآلياته إلى مبادئ المساواة والعدالة والمشاركة المحلية الشاملة في عمليات اتخاذ القرار. ويجب وضع الاقتصاد في إطار ديناميكيات اجتماعية، بدلًا من تقييد المجتمع واحتوائه من خلال ديناميكيات اقتصادية. ولكن بالطبع يبقى التحدي في كيفية تحقيق هذه المتطلبات المسبقة.
لكن التحول نحو نموذج يقرّ بهيكليات القوة وعلاقات الهيمنة الاستعمارية، ويعيد صياغة عمليات التنمية، من حيث ربطها بالنضال لأجل الحقوق والمقاومة والتحرير، وبعيدا عن اعتبارها عملية تكنوقراطية وغير سياسية وحيادية، يتطلب الإقرار بإشكالية تركيز التنمية على الاقتصاد الحر، ومن ثم التحول إلى التركيز على توجهات تشاركية، تركز على الشعب واستراتيجيات الصمود. وبالتالي، يجب أن تقع الرؤية الاقتصادية البديلة في صلب النضال الفلسطيني، وأن تتبع نموذج تنمية حقيقيًا وتشاركيًا من الأسفل إلى الأعلى، يركز على المواطن، ويسمح بمأسسة (وإنشاء) البيروقراطيات حول أجندة تنموية ديمقراطية، يدفع بها الشعب.
العربي الجديد