لا شيء يمكن أن يعوض فقدان البصر لإنسان ممتلئ بالحياة والطموح؛ لكن وحدهم أصحاب الإرادة لا يستسلمون، ولا يرفعون راية الهزيمة أمام التحديات والمعاناة، فهذا جهاد أبو نعمة (31 عامًا) فقد بصره قبل (11) عامًا بعدما أصابه صاروخان إسرائيليان لكنه وإن فقد البصر، لم يفقد عزيمته.
خرج أبو نعمة من بين ركام الألم والمعاناة، معلنًا تحدي الاحتلال الإسرائيلي، وها هو ينال درجة الماجستير في تفسير القرآن وعلومه قبل أيام ويتطلع إلى الدكتوراة.
بدا أبو نعمة مرنًا في حركته بالصعود على درج منزله وسرعته بالانتقال بين الدرجات دون الحاجة لمرشد أو عصا، حين وصلنا منزله، فاعتقدنا أنه غير فاقد البصر، وسألناه عن السر؟ وكانت إجابته في مستهل حديثه مع صحيفة "فلسطين" بابتسامة غطت وجنتيه: "الجميع يستغرب؛ هذا لأنني أصبت وعمري (20) عامًا، أحفظ مرافق البيت جيدًا"، "هذا في البيت فقط"...
يتابع كلامه ضاحكًا بلهجة عامية: "لو دعيتني عندك حجيب معي ثلاثة يرشدوني على المؤسسة"، وهذه الإجابة تلخص جزءًا من معاناة سببها الاحتلال.
بالعودة إلى أصل الحكاية وفصلها، ففي 11 فبراير/ شباط 2008م وفي أثناء مقدمة تصعيد إسرائيلي قصفت طائرة استطلاع احتلالية مجموعة من المواطنين كان جهاد بينهم أو بالأحرى سقط الصاروخان عليه، ولا يزال ذلك الحدث الذي غير حياته يسكن ذاكرته فيقول: "حينما سقط الصاروخان، وبعد نصف ساعة من الإصابة بدأت بالتألم وشعرت بحروق بوجهي وكانت من الدرجة الأولى، وبفقدان البصر، وثقوب بكلتا الأذنين من ضغط الانفجار، وتشوهات بالأطراف الأربعة، ونزيف بالدم".
يجلس جهاد على أريكة بنية، خلفه نافذة يدخل منها شعاع الشمس وقت انقطاع التيار الكهربائي رافعًا درجة حرارة الغرفة، وكانت الساعة الرابعة عصرًا، متابعًا: "بعد (10) أيام من الإصابة، شعرت بعدم التحسن في الرؤيا، وأخبرني الأطباء أنني بحاجة لعملية مستعجلة، لكن بسبب الحصار وإغلاق المعابر لم أتمكن من ذلك وكانت العين اليمنى مفرغة تالفة، والثانية بها تهتك بالشبكية".
"هذه حياتنا معبدة بالأشواك والصعوبات والتحديات!"، "آخر مشهد رأيته كان وجه والدي حينما سلمت عليهما قبل خروجي من المنزل، وجمال الطبيعة والأشجار"، والحديث لـ"أبو نعمة".
تكيف مع الواقع
كيف بدأت تواجه الإصابة؟ يرد جهاد صاحب البنية القوية تمامًا كعزيمته: "بعدما شعرت بأن المستقبل سيكون دون نظر وإبصار، خرجت بنتيجة أن الإعاقة لا تعجز ولا تثني صاحب الهمة والإرادة القوية عن استكمال المسيرة التعليمية واستمرار الحياة اليومية للوصول نحو المراد".
وهكذا استطاع التكيف مع الواقع، وهو يعبر عن ذلك بقوله: "فقدت البصر وأنار قلبي بالعلم والإيمان".
قرر الشاب إكمال دراسته التعليمية بتخصص مغاير عن تخصصه قبل الإصابة والذي كان سكرتارية وأتمتة مكاتب، فهذا التخصص الذي يحتاج لأعمال يدوية لا يصلح مع فاقد البصر. أيقن هذه الحقيقة، مردفًا: "تخصصت في تأهيل دعاة ومحفظين بقسم الدراسات الإنسانية بالكلية الجامعية للعلوم التطبيقية".
"استطعت التغلب على الإعاقة والعجز الكبير والجرح الغائر بتعلم بعض الوسائل المتاحة كي يستطيع الكفيف إكمال مسيرته التعليمية"، يتحدث عن مواجهته للإعاقة.
تعلم "أبو نعمة" على برنامج الناطق وكان يحضر الكتب المتوافر لها نسخة إلكترونية على الإنترنت بدوره يقوم البرنامج بقراءتها، فأنهى الدبلوم، وقام بالتجسير للبكالوريوس بكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية، ثم بعد ذلك التحق بالماجستير بتخصص تفسير القرآن وعلومه، وكانت رسالته بعنوان "التوجيهات التربوية وأساليبها المستنبطة من صورة محمد صلى الله عليه وسلم.. دراسة موضوعية تطبيقية".
وأخيرًا تحقق الهدف
يرفع يده اليمنى وهنا سيلفت انتباهك، عزيزي القارئ، الجزء الناقص المجوف من ظهر كفة يده اليمني وأصابعه التي لا يستطيع ضمها، وكأنه يسد دينًا عمره (11) سنة لكنه دين من نوع مختلف قائلًا: "شعرت بفخر واعتزاز كبير بحصولي على هذه الدرجة وشعرت أنني حققت الهدف الذي كنت أرسمه، فعشت بمعاناة كبيرة إذ لم أستطع توفير الكتب الإلكترونية".
ويوجه رسالة لمن سبب له كل هذا الألم وهل هناك أصعب من فقد البصر وكان بثوب المنتصر في نبرة صوته وفصاحة لسانه: "أقول للاحتلال؛ مهما قصفت وضربتنا، سنخرج من تحت الركام بكل عزيمة وإرادة بأننا مستمرون رغم الجراح والمصائب".
"أصبتني في عيني وفقدت البصر لكن لم أفقد العزيمة والإرادة سأكمل المشوار متمسكًا بسلاح العلم"، بهذا ينهي رسالته للاحتلال.
لم يكن طريق العلم أمام فاقد البصر مفروشًا بالورد، بل كان مليئًا بالمعاناة كذلك، لا يخفي جانبًا منها: "فقد البصر ابتلاء كبير، كان أول معاناتي التنقل من البيت للجامعة، وعدم إيجاد من يقودني أحيانًا، وصعوبة توفير بعض الكتب لعدم توافر نسخة إلكترونية منها، فكنت أشتريها وكانت زوجتي تتولى مسؤولية قراءتها لي، وكان صديق يدعى محمود الزين يتولى إيصالي من الجامعة للبيت".
وبعد إصابته وسفره للعلاج بتركيا، تزوج "أبو نعمة" تزوج من ابنة عمته، ورزق منها بثلاثة أولاد (صهيب 10 سنوات، ومحمود 8 سنوات، وأمير 5 سنوات)، ورغم أنه فاقد البصر تمامًا يقول: "أن تجلس مع زوجة تعرف شكلها ومواصفاتها يختلف عما إذا كنت كفيفًا ولا تعرف الألوان وملامح الإنسان (...) ابني البكر يشبهني فيما يشبه شقيقاه أمَّهما وهكذا أقرب الملامح".
وقبل الإصابة كان جهاد حافظًا للقرآن الكريم، وبعد إصابته راجعه، ثم حصل على السند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم غيبًا قبل عام، واعتمد خطيبًا بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وهو يطمح للالتحاق ببرنامج الدكتوراة وإكمال مسيرته، مردفًا: "أريد أن أتحدى المحتل المجرم على فعلته بقصفي واستهدافي وإصابتي".
وعن الخطابة يقول: "منذ ست سنوات أعطي دروسًا وعظية يوم الجمعة، كون تخصصي تفسير قرآن وعلمه فإنني أستنبط من القرآن التوجهات التربوية وأربطها بالواقع، وأحاول إيجاد حلول لبعض المشكلات".
وقبل أن تنتهي المقابلة جلس أمام حاسوبه، كشخص ليس فاقد البصر، كان يتنقل بالمؤشر بين الملفات مستفيدًا من تخصصه الأول (سكرتارية)، وبدأ يحرك أصابعه التي يشد عليها لأنه لا يستطيع ضمها وهو يكتب في برامج الحاسوب، بسرعة كبيرة أنهى كتابة ثلاثة أسطر يعبر فيها عن ترحيبه بالمقابلة الصحفية وعن مواصلته تحدي الاحتلال، دون أي خطأ.