فلسطين أون لاين

​الاعتماد المطلق على الذات يرهق "الكائن الضعيف"

...
صورة تعبيرية
غزة - فاطمة أبو حية

"أنا أفعل كل شيء بنفسي".. هذا ما يردده الكثير من الناس ليؤكدوا على رفضهم قبول المساعدة من الآخرين، وإيمانهم بضرورة الاعتماد المطلق على الذات، هناك من يقول ذلك بنبرة فيها قدر كبيرة من التفاخر، وثمة من يتحدث بشيء من الألم ليؤكد أن هذا الطبع ينتج عنه إرهاق كبير.. فهل هذا الأمر مدعاة للفخر أم سبب لانهيار طاقة الفرد؟ وما سببه؟ وهل الأصل قبول يد العون الممدودة أم ردُّها؟...

التجربة الأولى والأخيرة

منذ طفولتها، كانت "مرام عبد الرحيم" ترى أمها مصممة على فعل كل ما تحتاجه بنفسها، فورثت عنها طبعها هذا، وباتت ترى أن طلب المساعدة من الآخرين قد يرهقهم أو يجعلهم يؤدون المطلوب عن غير طيب خاطر.

وتوضح: "بالإضافة إلى خوفي من إتعاب الآخرين، فأنا مقتنعة بأن الفرد يؤدي حاجته بإتقان أكبر مما لو ساعده فيه غيره".

ولمّا حاولت، قبل سنوات، تغيير ما اعتادت عليه، خاضت تجربة مريرة انتهت بـ"المعايرة"، فقد طلبت من بعض معارفها مساعدتها في مهمة بسيطة ليس فيها إرهاق، وما كان من الآخرين إلا أن ساعدوها بفعل ما طلبت تماما.

تقول: "بعد فترة يسيرة، بدأت أسمع عبارات المعايرة منهم، وأصبحوا يحدّثون بعض المعارف المشتركين بيننا عن الخدمة الكبيرة التي قدّموها لي"، مضيفة: "كانت هذه التجربة الأولى والأخيرة لي في طلب المساعدة من الآخرين، فلم أكررها بسبب رد فعلهم".

وتبين: "صحيح أنني أكون راضية عن الشيء بعدما أنهيه بنفسي، ولكن هذا الرضا يصاحبه إرهاق شديد يصل إلى حد عدم الشعور بسعادة الإنجاز في بعض الأحيان".

لا ضرر في ذلك

على عكس سابقتها، فقد تعلّمت "أمينة رمضان" من خلال تجربتها درسا مغايرا تماما، وعنه تقول: "لطالما رفضت مساعدة غيري لي، فأنا لا أطلب العون من أحد، وإن عرض عليّ الآخرون المساعدة أرفضها، وهذا ما نتجت عنه بعض المشاكل بسبب غضب من أرفض عروضهم، بالإضافة إلى أن الاعتماد المطلق على النفس سبب لي الإرهاق والإنهاك على الصعيدين الجسدي والنفسي".

وتضيف: "قبل عدّة سنوات، كنت بحاجة لإنجاز عمل صعب وفي وقت محدود للغاية، فشعرت أني وقعت في ورطة لا مخرج منها، مما أدخلني في حالة من القلق والتوتر".

وتتابع: "لاحظت أختي ما طرأ عليّ من تغيّر، فأنّبتني لعدم طلب العون منها، ثم بدأت بتعديد إمكانيتها هي وباقي إخوتي وقدرتهم على مساعدتي، وكذلك عددت لي صفات أبنائي الذين اقتربوا من الدخول في مرحلة الشباب وبإمكاني الاعتماد عليهم"، موضحة: "اقتنعت بكلامها، وأخذت بنصيحتها، فانبهرت بنتائج التجربة".

وتؤكد، وفقا لما تعلمته من تجربتها في رفض المساعدة ثم قبولها: "الاعتماد على الذات لا يعني تحميلها أكثر من قدرتها، فهذا قد يؤدي إلى انهيار طاقة الإنسان، ولذا لا بد من الحصول على مساعدة الآخرين، ولكن مع ضرورة انتقاء الأشخاص المناسبين لتقديم العون، وعدم الاعتياد على الاعتماد على الآخرين".

بفعل التنشئة

وتقول الأخصائية النفسية ليلى أبو عيشة: "يرفض البعض طلب العون من الآخرين من باب التأدب وتحمل المسؤولية، ولكن هناك من يصرّ على فعل كل شيء بنفسه خوفًا من أن تحول المساعدة إلى جميلٍ يعايره به من قدّموها".

وتضيف لـ"فلسطين": "رفض العون من الآخرين غالبا ما يكون ناتجا عن أسباب متعلقة بالتنشئة الوالدية الخاطئة، وأحيانا يكون بسبب تجارب سيئة مرّ بها في حياته وخرج منها بهذا الدرس".

وتتابع: "بعض الأهالي لا يُكسبون أبناءهم الثقة بذواتهم أثناء العملية التربوية، ويكثرون من عقد المقارنات بينهم وبين أقرانهم، ويخبرونهم أنهم غير قادرين على عمل ما يقوم به أصدقاؤهم وأقاربهم، مما يزعزع ثقتهم بأنفسهم ويعطيهم شعورا بأن الآخرين أفضل منهم دوما".

وتواصل: "في هذه الحالة، يبقى عالقا في مخيلة الطفل أنه لا يتمكن من عمل المطلوب منه، لذا فإنه في المستقبل إما أن يكون غير قادر على تحقيق أهدافه بثقة تامة لأنه لم يكتسبها من أهله، أو أن يحرص على إثبات عكس ذلك لوالديه بأن يؤدي كل شيء مطلوب منه بنفسه دون الاعتماد على غيره ودون طلب المساعدة من أحد".

وتوضح أبو عيشة: "إن كان عدم تقبل المساعدة مبنيا عن تجارب سابقة لم يجد فيها الشخص من يمد له يد العون، أو تعرض خلالها لإساءة ممن ساعدوه، فهو بذلك يكون قد تعلّم درسا مفاده أن يقوم بكل أعماله منفردا"، مؤكدة: "التجارب سواء كانت سلبية أو إيجابية، فكلها تعطينا خبرات حياتية مهمة، ولكن ليس من الضروري أن نجعلها قوانين نسير وفقها طوال العمر، فلكل قاعدة استثناءات".

وتبين أن من يرفض مساعدة الآخرين له يعاني من مشاكل في تكوين العلاقات، وهو أقرب إلى أن يكون منعزلًا اجتماعيا، فالأصل أن يؤثر الإنسان في مجتمعه ويتأثر به، أما من يرفض المعونة فمن الصعب بالنسبة له التأثير والتأثر.

وتؤكد على أن عرض المساعدة على الآخرين، وقبولها منهم، جزء من الحياة الاجتماعية، خاصة أنه يوفر الجهد والوقت، ويزيد المؤاخاة بين الناس، ويوطد علاقاتهم الاجتماعية.

وتشير أبو عيشة إلى أن من يصر على فعل كل شيء يحتاجه بنفسه قد تنهار قواه في نهاية المطاف، لأن الأصل في الإنسان أنه كائن ضعيف، ومن غير الجيد تحميل النفس أكثر من طاقتها.