قطاع غزة قلق يسكن في خلايا السياسة الإسرائيلية، ومصيبة تربض على حدود الحلم الإسرائيلي بحياة آمنة، ومرجل يغلي بنار الغضب، يندلق لهيبه على الاقتصاد الإسرائيلي، ولا غرابة والحالة هذه أن تكون غزة هي المرض المستعصي على العلاج الإسرائيلي؛ فلا الضم كان نافعاً مع غزة، ولا الاحتلال كان مستقرا، ولا ترك غزة لمصر إدارياً كان مجدياً، ولا الفصل والانسحاب نجح مع أهل غزة، ولا الحصار أثمر هزيمة لهم، ولا العقوبات أفرزت انهياراً، وباءت كل محاولات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لتدمير غزة أو هزيمتها عسكرياً، باءت بالفشل، حتى فكرة حاجز الصد من خلال بناء الجدران بمليارات الشواكل قد فشلت، وفكرة بناء الدفاعات الأرضية من قبة حديدية ومن تلال رملية ومن تكنولوجيا واستخبارات، فقد فشلت، ولم يبق أمام الإسرائيليين إلا إحياء المشاريع القديمة الجديدة في ترحيل سكان قطاع غزة، كأنجع حل يفتح للإسرائيليين آفاق الحياة الآمنة بعيداً عن وجع غزة المتراكم.
ولكن كيف؟
فكرة ترحيل سكان قطاع غزة لم تبدأ من لحظة اجتماع المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر قبل أيام، وإنما فكرة ترحيل سكان قطاع غزة بدأت من اللحظة الأولى لاحتلال قطاع غزة بعد هزيمة 1967، حيث جمع الجيش الإسرائيلي آلاف الشباب الفلسطيني، وأخذهم في مئات الحافلات، وألقى بهم خلف قناة السويس، على الجانب المصري.
وكانت الخطوة الثانية حين قدم الجيش الإسرائيلي مبالغ مالية لكل فلسطيني يترك قطاع غزة، ويتوجه إلى الأردن عبر النهر، دون أي وثائق أو أوراق ثبوتية، وقد نزح في تلك الفترات آلاف الشباب طوعاً، وخلاصاً.
وكانت الخطوة الثالثة سنة 1970 حين سعى قائد المنطقة في ذلك الوقت آرئيل شارون لتفريغ قطاع غزة من سكانه، وقام بنقل عائلات بكاملها من غزة إلى العريش، بهدف تصفية المقاومة، وتفريغ ازدحام السكان في قطاع غزة، في ذلك الوقت كان عدد سكان قطاع غزة لا يتجاوز 400 ألف نسمة، وليس كما هو اليوم، أكثر من 2 مليون إنسان.
كل ما سبق من خطوات ترحيل لسكان قطاع غزة فشلت، كما فشلت من قبل كل مشاريع توطين اللاجئين في سيناء، بما في ذلك مشروع جون دالاس سنة 1955، ولكن الجديد في هذ المرة أن ترحيل سكان قطاع غزة يجيء في ظل الحصار، وتحت ضغط الفقر والجوع والبطالة والضائقة الاقتصادية والانقسام وقطع الرواتب، وهذا مؤشر خطير.
إن الخطر الحقيقي على سكان قطاع غزة في هذه المرحلة يتمثل في تكرارتجربة الترحيل الجماعي كما حدث سنة 1948، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال حرب شاملة على قطاع غزة، برعاية أمريكية، وتحت غطاء حسن الجوار والتطبيع مع الدول العربية، ليصير فتح الحدود على سيناء ملاذاً إنسانياً آمناً، كما حدث في أكثر من مكان في الشرق الأوسط، ولاسيما أن الأوضاع العربية تكاد أن تتشابه مع ما كانت عليه عشية مؤامرة 1948، وهذا هو الخطر الحقيقي على مجمل القضية الفلسطينية، وهذا هو منطلق التفكير العملي الإسرائيلي للخلاص من غزة، دون السماح لها بدولة مهما كانت، أو حتى شبه دولة؛ فتشكل خطراً استراتيجياً على دولة الكيان، وهذا ما يجب أن يتنبه له الفلسطينيون بكل مشاربهم السياسية ومواقعهم الجغرافية، وهذا ما تعود أن يتصدى له الشعب الفلسطيني، ولاسيما سكان قطاع غزة الذين آمنوا أن سلامتهم تكمن في وحدتهم، وصمودهم الجماعي، وتعاضدهم، وثباتهم فوق أرضهم مهما تشعبت المؤامرة.
ملاحظة: نسبة من رحلوا من قطاع غزة حتى الآن لا يشكلون تفريغاً يذكر للخزان البشري، إذ أفادت المصادر الإسرائيلية بأن عدد الفلسطينيين الذين رحلوا من قطاع غزة لم يتجاوز 35 ألف فلسطيني طوال سنة 2018، وهذا رقم لا يتعادل مع نسبة زيادة السكان، والتي بلغت أكثر من 57 ألف مولود في العام نفسه.