فلسطين أون لاين

​كابوس (إسرائيل) المزعج.. هكذا أظهرت "العمليات الفردية" فشل سياسات التدجين

عملية الشهيد عمر أبو ليلى، التي مثّلت خرقا أمنيا جديدا في المنظومة الاستخباراتية لجيش الاحتلال في أكثر البقع التي تعج بالمستوطنين، بدت في رونقها كأنّها الأولى في تاريخ الكفاح الفلسطيني، ولكنها بالطبع لم تكن كذلك. الشابّ، ابن السنة التاسعة عشرة، لم يكن الأول الذي يحمل سكينا، وينجح في الاستيلاء على أحد الأسلحة، لينفّذ عملية ناجحة في جنود الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه في الضفّة الغربية، إلا أنّ الفلسطينيين ينشدّون إلى العمل الكفاحي بقدر كبير من الانفعال، وكأنّ الدهشة المتجددة تنسخ ما سبقها، بيد أنّ هذا لا يعني أنّ عملية الشهيد عمر أبو ليلى وما تبعها من ملاحقة قصيرة لم تحمل شيئا من الجدّة والفرادة.

سيرورة التحوّلات في الضفّة الغربية

منتصف عام 2014، مثّل نقطة تحوّل بالنسبة لواقع الضفة الغربية، ولفهم ذلك؛ ينبغي النظر في الإحصاءات التي ترصد حالة المقاومة في الضفّة الغربية، فقبل هذا العام، وفي العام 2011 تحديدا، بلغ مجموع نشاط المقاومة 320 نشاطا، بما فيها المواجهات الشعبية مع الاحتلال، من رمي الحجارة وإشعال الإطارات وقذف الزجاجات الحارقة، إلا أن هذا الرقم ارتفع في العام الذي يليه إلى 578 نشاطا، ثم في العام 2013 إلى 793 نشاطا، هذا التصاعد الملحوظ قفز مرّة واحدة في منتصف العام 2014، ليبلغ 3699 نشاطا مقاوما، منها 16 عملية طعن، و8 عمليات دعس، وقد كانت ذروة التحول في يوليو/تموز بواقع 886 نشاطا مقاوما، ليُطرح سؤال مهم هنا حول الأسباب التي قادت النشاط المُقاوم للتصاعد.

يمكننا الحديث هنا عن ثلاثة أحداث في العام 2014 شكّلت مفتاحا للحالة الكفاحية الجارية في القدس والضفّة الغربية حتى اللحظة، والتي اتسمت بنمط من العمليات الفردية، والتي لا تتصل بالضرورة بالفصائل الفلسطينية، وإن لم تكن هذه الفصائل غائبة عن المشهد.

الحدث الأول، في يونيو/حزيران، خلية، تبيّن فيما بعد أنها تتبع لحركة حماس، تأسر ثلاثة مستوطنين في الخليل، ثم تقتلهم. في الأثناء، وبحثا عن المستوطنين، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي غالبية مدن الضفة الغربية، وهو الأمر الذي ضاعف من النشاط الشعبي المقاوم في مواجهة هذه القوّات، تدحرجت الأحداث وصولا إلى الحدث الثاني المفصلي في مطلع يوليو/تموز، وهو حرق المستوطنين لطفل مقدسي، وقد عرفت تداعيات الحادثة بـ "هبّة الطفل محمد أبو خضير"، وقد تركّزت هذه الهبّة بالدرجة الأولى في مدينة القدس المحتلّة.

بيد أنّ الحدث المفصلي الأهم كان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ابتداء من يوليو/تموز، وهي الحرب التي سمّتها حركة حماس بـ "حرب العصف المأكول" وسمّتها قوات الاحتلال بـ "الجرف الصامد"، وكانت المعركة الأطول في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وأسفرت فيها المقاومة الفلسطينية عن أداء قتالي غير مسبوق بالنظر إلى إمكاناتها المحدودة، وكونها تعمل في شريط ساحليّ ضيق مكشوف ومحاصر، ومفتقر إلى الظهير الاستراتيجي، وكان من أهم معالم أداء المقاومة الفلسطينية في هذه المعركة قدرتها على أسر عدد من الجنود الإسرائيليين.

حرب غزة.. وظهور العمليات الفردية

جاءت هذه الحرب بعد سبع سنوات بالضبط على الانقسام الفلسطيني، وخلال هذه السنوات السبع جرت مياه كثيرة أسفل جسر الضفّة الغربية، كان عنوانها "صناعة الفلسطيني الجديد"، بحسب تعبير الجنرال الأمريكي كيث دايتون، الذي أشرف على إعادة بناء المنظومة الأمنية الفلسطينية بعد الانقسام الفلسطيني، ولم تقتصر هذه الرؤية على تجديد الجهاز الأمني الفلسطيني، وإنما استندت إلى نسق أوسع، يتضمن السياسات الأمنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتهدف في مآلاتها إلى تحييد الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية عن مهمّتها التاريخية بإغراقها في نمط استهلاكي يتضادّ مع متطلبات مواجهة الاحتلال، وقد احتاج ذلك إلى عملية هندسة اجتماعية واسعة؛ لم تكن جهود إقصاء حماس عن المجال العام، وتحطيم منابرها، وتجريف محاضنها، إلا معلما من معالمها.

فبالإضافة إلى سياسات الإغراق في الديون على حساب التنمية الزراعية والصناعية، تمددت الهندسة المجتمعية الجديدة إلى تجريف الحركة الوطنية عموما، وتكريس حركة فتح حزبا للسلطة، وإنهاء مهمتها التحررية، وربطها عضويّا بالسلطة، بما يشلّ قدرتها على قيادة أيّ فعالية نضالية مؤثّرة، وتأميم المجال العام كلّه، وإضعاف الحركة الطلابية، ورافق ذلك الدفع نحو إبراز رموز جديدة، كالمغني بدلا من الشهيد والأسير، وتكثيف الاستعراض الاستهلاكي، وتعزيز الفردانية الصرفة، وهكذا، ظلّت هذه العملية، وعلى مدار سبع سنوات تقصي الجماهير الفلسطينية عن مهمتها في مواجهة الاحتلال.

حرب العام 2014 على قطاع غزّة امتلكت القدرة في ذاتها لتكون كسرا فعليّا لعمليات الهندسة المجتمعية سابقة الذكر، ولولا الظروف الإقليمية والدولية المختلفة لكانت هذه المعركة بالنسبة لحماس أكبر مما كانت معركة الكرامة بالنسبة لفتح في العام 1968، وفي أقلّ الأحوال أعادت هذه المعركة تعريف الجماهير الفلسطينية في الضفّة الغربية بحركة حماس، التي ما عادوا يرون نشاطها في محاضنها التقليدية، كما طرحت سؤال الواجب على الأجيال الجديدة التي لم تعايش تجربة انتفاضة الأقصى وما انتهجه الاحتلال فيها من سياسة "كيّ الوعي"، كما لم تتأثر بدعاية الانقسام الفلسطيني، وبالتالي لم تُشكّل حرب العام 2014 حالة إلهام عالية لهم فحسب، وإنما طرحت عليهم أيضا سؤال الواجب بخصوص تحديات القدس والمسجد الأقصى والاستيطان.

يمكن أن نلاحظ أثر هذه الحرب على استعادة الجماهير وعيها بحركة حماس؛ من خلال فوز إطارها الطلابي في جامعة بيرزيت، بنسبة حاسمة، من بعد غياب طويل عقب الانقسام الفلسطيني. أشار هذا الفوز إلى انزياح صور أحداث الانقسام من ذاكرة الفلسطينيين، والانحياز الواضح إلى مشروع المقاومة الذي تمثّل حينها سياسيا في حركة حماس.

الأهم، في الأمر كلّه، أن العام 2014 لم يكن طفرة عابرة، ومع تصاعد التحديات الاستعمارية، كالاستهداف المتكرر للمسجد الأقصى ومحاولات تطبيع التقسيم الزماني، وفتح ثغرة للتقسيم المكاني، وتصاعد هجمات المستوطنين والتي كان من أبشعها حرق عائلة فلسطينية في يوليو/تموز 2015، أخذت الحالة الكفاحية التي افتتحت في العام 2014 بالتجذر في القدس والضفة الغربية، فقد بلغت الأنشطة المقاومة في العام 2015 أكثر من 5383 نشاطا مقاوما، منها 186 عملية طعن، و42 عملية دعس، و123 عملية إطلاق النار، وقد كانت ذروة هذا العام في شهر أكتوبر/تشرين الأول إذ بلغ مجموع الأنشطة المقاومة 1328 نشاطا.

هبّة القدس

خلية تابعة لحركة حماس في مدينة نابلس، تشنّ، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، هجوما على سيارة للمستوطنين، بعد يومين على هذه العملية، قام الشاب مهند الحلبي، القادم من مدينة رام الله، بتنفيذ عملية طعن في القدس المحتلة، أدّت إلى مقتل ثلاثة مستوطنين ثم استشهاده، لتكون هذه العملية فاتحة ما عُرف لاحقا بـ "هبّة القدس"، ولتكون "هبّة القدس" المحطة الأهم في الحالة الكفاحية المفتوحة منذ منتصف العام 2014.

هذه الهبّة، وبالإضافة إلى اتسامها بالمواجهات الشعبية، فإنّها اتسمت، كذلك، بكثافة العمليات الفردية، التي لم تتوقف في الأعوام التالية، ففي العام 2016، نُفذت 10 عمليات دعس، و50 عملية طعن ناجحة، من أصل 4785 نشاطا مقاوما، وهكذا استمرت هذه الحالة الكفاحية بأنماط متعددة، وفي محطات متنوعة، ظلّت العمليات الفردية فيها معلما بارزا، بالإضافة إلى العمليات المنظمة، والهبات المتجددة، مثل "هبّة باب الأسباط" في المسجد الأقصى والتي تشكّلت لكسر القرار الإسرائيلي بإقامة بوابات إلكترونية على مداخل المسجد الأقصى لتعزيز هيمنة الاحتلال الإسرائيلي عليه، وقد افتتح الموقف حينها كذلك بعملية إطلاق نار نّفذها ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم الواقعة في فلسطين المحتلة عام 1948.

نظرة في السمات الملحمية

المبادرة الفردية ظاهرة حاضرة باستمرار في الكفاح الفلسطيني، وحتى الأنماط التي غلبت على العمليات الفردية في السنوات الأخيرة هي مألوفة فلسطينيّا، في طول محطاته الكفاحية، فقبل الانتفاضة الأولى نفّذ خالد الجعيدي، من حركة الجهاد الإسلامي عمليات طعن ناجحة ساهمت في بلورة الأحداث نحو تلك الانتفاضة، وفي الانتفاضة الأولى عُرف عامر أبو سرحان، من حركة حماس، بـ "مفجر ثورة السكاكين"، وفي مطلع الانتفاضة الثانية قام خليل أبو علبة، وهو لا ينتمي لأي تنظيم فلسطيني حينها، بتنفيذ عملية دعس أدّت إلى مقتل ثمانية إسرائيليين، إلا أن الفارق الأهم في العمليات الفردية الأخيرة تمثّل في كونها لا تأتي من سياق تغلب عليه الفاعلية التنظيمية في الضفة الغربية، فالدوافع الفردية خارج السياقات التنظيمية هي الغالبة في هذه المرحلة.

لا يعني ذلك الغياب التنظيمي التام، فقد سبقت الإشارة إلى العمليات المنظمة التي وقفت خلفها حركة حماس وافتتحت بها أحداث أعوام 2014، و2015، كما ظهر عدد من مقاتلي الحركة الذين طاردتهم قوات الاحتلال لوقت وجيز، مثل الشهيد محمد الفقيه الذي استشهد في العام 2016، والشهيد أحمد نصر جرار الذي استشهد في مطلع العام 2018، والشهيد أشرف نعالوة الذي نفّذ عمليته في أكتوبر/تشرين الأول 2018، واستشهد في ديسمبر/كانون الأول 2018، والأخوين الشهيد صالح البرغوثي وعاصم البرغوثي منفذي عمليتين في شهر ديسمبر/كانون الأول 2018، كما أنّ عددا من منفذي عمليات الطعن والدعس سبق لهم الانتماء لفصائل فلسطينية مثل الشهيد مهند الحلبي الذي انتمى لحركة الجهاد الإسلامي، والشهيد إبراهيم العكاري منفذ عملية دعس في القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، والذي يبدو قريبا من حركة حماس، وعملية الأسير عمر العبد الذي اقتحم في يوليو/تموز 2017 مستوطنة في محيط مدينة رام الله وقتل طعنا ثلاثة مستوطنين، وتبين أنه متأثر بـ "دعاية حركة حماس الأيديولوجية".

وهنا يمكن الحديث في السمات عن غلبة الدوافع الفردية، مع تداخل واضح مع العمل التنظيمي، ويضاف إلى ذلك كثافة العمليات، عددا وكيفا، ولا سيما في "هبّة القدس"، ومشاركة فلسطينيين من فلسطين المحتلة عام 48، فبالإضافة إلى عملية شبان أم الفحم سابقة الذكر، تحضر عملية نشأت ملحم، من سكان وادي عارة في فلسطين المحتلة عام 48، الذي نفّذ عملية إطلاق نار ناجحة في تل أبيب في يناير/كانون الثاني 2016، ليستشهد فيما بعد عقب مطاردة وجيزة.

تحيل المطاردة إلى صورة مألوفة في الذاكرة الكفاحية الفلسطينية، والتي يستعيدها الفلسطينيون الآن في الضفة الغربية، وإن لفترات وجيزة، وإذا كان من أشهر المطاردين في هذا السياق من ينتمون لحركة حماس مثل أحمد نصر جرار، وأشرف نعالوة، وعاصم البرغوثي، فإنّ بعض المطاردات نشأت خارج السياق التنظيمي التقليدي، مثل حالة الشهيد باسل الأعرج، وأخيرا حالة الشهيد عمر أبو ليلى. هنا تجدر الإشارة إلى قصر فترة المطاردة، وهو ما يعطي دلالة واضحة على الهندسة الاستعمارية والأمنية التي اجترحها الاحتلال في الضفة الغربية، بيد أنّ ذلك لم يقطع الطريق على العمليات الفردية، والتي وإن اتسمت في بعض الأوقات بالكثافة، فإنها الآن تتسم بالاستمرارية والفاعلية وإن على فترات متقطعة.

خاتمة.. في الدلالات

نسبيّا تعني العمليات الفردية واستمرارها فشل عمليات الهندسة الاجتماعية، وجهود تحييد الجماهير في الضفة الغربية، وكذلك استعادة ثقافة المقاومة في الضفة الغربية بالتأثر بمشهدية الحرب المتلفزة في غزة عام 2014، وبوعي الجماهير الغريزي بفشل مشروع التسوية وانسداد آفاقه، وتعاظم التهديدات الاستعمارية الإسرائيلية، ولا سيما فيما يخصّ المسجد الأقصى، العنوان الأبرز لأكثر محطات الحالة الكفاحية المفتوحة، وكذلك تحدي المستوطنين وتزايد اعتداءاتهم بما يرفع من الشعور بالخطر لدى كلّ فرد فلسطيني، خاصّة وقد بلغت تلك الاعتداءات حدّ حرق البيوت والأفراد والمساجد، فلم يعد المشهد الاستيطاني مشهدا يهدد الأرض، وبالتالي تكريس الموقف الاستعماري فحسب، ولكنه، وبالإضافة إلى ذلك، بات يتمدد لتهديد الأفراد في حياتهم وممتلكاتهم مباشرة.

بيد أنّ غلبة الطابع الفردي للعمليات يعكس ظرف الحركة الوطنية في الضفّة الغربية، بعدما استنزفت فصائل المقاومة كادرها وصفّها في الانتفاضة الثانية دون قدرة على استيعاب الخسائر، ثم بعد الانقسام، حينما استهدفت السلطة الفلسطينية، لا بنى حركات المقاومة، أو خصمها التقليدي حماس فحسب، بل مجمل الحركة الوطنية، على النحو الذي سبق وصفه، وبالتالي بدأت الجماهير في أخذ زمام المبادرة، بعدما كان العمل المنظم هو الطاغي على التاريخ الكفاحي للفلسطينيين.

استمرار العمليات الفردية، وإن بصورة متقطعة، بعدما تراجعت كثافتها، يعني أن النموذج المقاوم ما زال مهيمنا على عمق الوعي الفلسطيني، وأنّ هذه العمليات لا تأتي في سياق عابر. وإذا كانت الشروط الموضوعية لا تسمح حتى اللحظة بالتوسع في هبّة أو انتفاضة أشمل، خاصة بالنظر إلى موقف السلطة الفلسطينية التي تسيطر على المجال الفلسطيني في الضفة الغربية، وهو الموقف الذي يحول دون اتساع أشكال وأنماط المقاومة، فإنّها، أي تلك العمليات، بتراكمها واستمرارها تفتح الطريق لخلق تحولات أوسع في الحالة الفلسطينية، وهو ما يذكّر بسلسلة الأعمال المتقطعة قبل الانتفاضة الأولى، أو بسلسلة العمليات بين الانتفاضتين، فالحاصل عملية تحوّل عميقة لا يبدو أنّها ستنقطع، لا سيما والحالة الفلسطينية وما يحيط بها تمر بمرحلة سيولة عالية.

يظلّ السؤال، وحين الحديث في الدلالات، عن قصر عمر المطارد الفلسطيني في هذه المرحلة، سواء كان ينتمي لتنظيم فلسطيني أم لا، والإجابة تتصل أولا بالقدرات الأمنية التي راكمها الاحتلال منذ الانتفاضة الثانية، والتي من عناصرها الهندسة الجغرافية، بالطرق الالتفافية والحواجز، ونصب كاميرات المراقبة على طول الطرق الالتفافية ومدالها ومخارجها، بالإضافة إلى تراجع الخبرة النضالية كما سبق بيانه، وبالتالي، فإنّ المقاتل الذي يُقدم على تنفيذ عملية يدرك غالبا أنها العملية الأولى والأخيرة، وهنا تنبثق دلالة مهمّة على روحية هذا المقاتل، وبالتالي تعزّز نموذج المقاوم داخل المجتمع الفلسطيني، واحتمالات استمرار هذه العمليات.


الجزيرة نت