السؤال الذي يضغط أعصابي منذ وعيت على الدنيا ويشعرني بظلم مقيت وإجحاف بغيض هو: لماذا ليس لدي أب مثل جميع أطفال العالم؟!، سنوات عديدة، اختُزل أبي في نظري بصورة كبيرة الحجم داخل إطار مذَّهب معلقة على الجدار، يظهر فيها شاب مبتسم علمت منذ صغري أنه أبي، قد يكون شخص ما أخبرني بذلك، وربما أكون قد عرفت ذلك بفطرتي، على كل حال لن أولي هذا الجانب أهمية كبرى، لأن جميع الاحتمالات سيان، ولكن لأعد من ذي بدء: أين أبي؟!، ولماذا لا يعود إلينا كل مساء مثل أطفال الحارة وأقاربي من الأطفال وزملائي في الصف؟!
كنت أتلقف إجابات أمي فأؤمن بها إيمانًا مطلقًا لا يقبل النقاش والتأويل، ولكني الآن أشعر بشيء يتغير داخلي، يدفعني لأن أستفسر وأسأل، وأستجلي الحقائق بنفسي، أشعر بحاجة لرجل يدعمني، ويشعر بهموم من هم مثله من الرجال، رجل أسأله ما أشاء، فيجيبني بالحقيقة بدون مواربة، في السنوات الثلاث الماضية كنت أعود من مدرستي في نهاية العام الدراسي راكضًا نحو الصورة المعلقة على الجدار صارخًا: أبي، أبي، ها هي ذي الشهادة، أنا الأول على الصف.
وعندما يُكرمني الشيخ في المسجد لأنني حفظت جزءًا جديدًا من القرآن، أو يمنحني المدير شهادة تقدير وتفوق؛ كنت أفعل الشيء ذاته، كنت سعيدًا حين أريه الشهادة فأشعر بابتسامته تتسع، وألحظه ينظر إلي بفخر وإعجاب.
ولكن هذه السنة اختلف الوضع، بفتور أمر من أمام صورته، فأراه يثبت نظره على الجدار المقابل، ابتسامته متحجرة خالية من الحياة، وكأنه يعزل نفسه عني وعما أشعر به، فتصرخ نفسي قائلة: أبي، أحتاجك إلى جانبي، أقسم بأني أحتاجك، لماذا لا تتكلم معي؟!
صحبت صورته ذات ليلة معي إلى الفراش، رجوته أن يحكي لي قصة ما قبل النوم، مثل تلك التي يرويها والد صديقي جهاد له كل ليلة، ولكنه آثر الصمت، ولم ينبس ببنت شفة. اضطررت إلى الصمت احترامًا لرغبته ومشاعره؛ فقد يكون متعبًا، أو أن الملل قد أصابه من جلوسه طوال هذا الوقت داخل الإطار المعلق على الحائط، نمت وأنا أكبت دموعي وأخبئها عنه، فلا أريد للحزن أو القلق أن يجدا لهما مكانًا في قلبه، إن لاحظ دموعي أو سمع شهقات بكائي.
- أبي، بالله عليك، أخبرني متى تعود؟، وكيف تعود؟، أعدك بأن أنظف البيت والحي حتى الشارع كله، وأعدك أن أزين المنطقة، سأنير فيها الأضواء اللامعة ذات الألوان الجميلة البراقة، سأنفخ البالونات وأكتب عليها عبارات الترحيب، أنت فقط أخبرني: متى ستعود؟
أتمنى أن تصحبني إلى الملعب، أو المسبح، أو نذهب معًا في رحلة إلى أحضان الطبيعة مثلما يفعل زملائي وآباؤهم، ولكنك لم تأتِ حتى الآن -يا أبي- لنتفق على التفاصيل.
هأنذا أكبر، أبحث عن قدوة أمامي، رجل أراه بعيني، أقلده، أفعل مثلما يفعل، أسأله فيجيبني، بيد أني لا أجد.
غبت عني -يا أبي- وتركت في قلبي فجوة عميقة لم أجد من يردم هوَّتها، أو يملأ فراغها، فماذا بوسعي أن أفعل، يا أبي؟
تيار عاتي يجرفني، أقاومه بقوة، ولكني بتُّ أخشى أن أفقد القدرة على المقاومة يومًا فأقع، أسقط، أنتهي؛ فلا أعود جديرًا بأن أكون ابنك، أن أكون الشبل الذي يشبه ذاك الأسد الرابض هناك، خلف الإطار الذهبي، يحدق بي مترقبًا.
سامحني، يا أبي، سامحني؛ فما أنا إلا مجرد شاب فقد أباه وقدوته، وجار عليه الزمان وذوو القربى، يشعرني الناس بكلامهم أنك المذنب حين اخترت وطنك وتركتني، ولكني أسامحك، يا أبي، وسأكون مثلك وأسلك دربك.