الصراع على الأرض هو جوهر الصراع مع المحتل منذ الغزوة الصهيونية الأولى لفلسطين، وما أعقب ذلك من تعرض شعبنا لنكبات متواصلة ومستمرة حتى اللحظة، ففي نكبة عام 1948 جرى هدم وتدمير أكثر من 531 قرية ومدينة فلسطينية، وهجر أكثر من نصف شعبنا قسرًا بفعل العصابات الصهيونية (البالماخ، شتيرن، الهجاناة، والأرغون)، ليستقر الجزء الأكبر منهم في مخيمات اللجوء في الأردن وسوريا ولبنان، في شروط وظروف تفتقر إلى أدنى شروط الحياة الإنساني.
إذا ما استثنينا سوريا من هذا الإطار... وتلك النكبات بحق شعبنا لم تتوقف، حيث في سياق عملية التهجير والطرد القسري، ارتكبت العديد من المجازر بحق شعبنا الفلسطيني، بهدف بث الرعب والخوف في قلوب السكان الفلسطينيين لحملهم على ترك منازلهم وقراهم ومدنهم، واستكمل مسلسل الطرد والتهجير، مع استكمال احتلال فلسطين التاريخية في حرب حزيران /1967، والتي عنت المزيد من الطرد والتهجير والنزوح عن الأرض الفلسطينية، فـ(إسرائيل) كل يوم تشرعن و"تقونن" و"تدستر" المزيد من القوانين والتشريعات وتتخذ المزيد من القرارات ذات الطابع العنصري، ليس أخطرها قانون ما يسمى بقانون أساس القومية الصهيوني، بل نجد أن دولة الاحتلال كمجتمع ومؤسسة ودولة تحولت إلى دولة "أبارتهايد" عنصرية.
لعل النكبة الثانية التي تعرض لها شعبنا، وكانت تداعياتها والتي ندفع ثمنها حتى اليوم، أخطر وأشمل من نكبة عام 1948، هي نكبة أوسلو، التي وصفها ثعلب السياسة الإسرائيلية "بيرس"، بأنها النصر الثاني لدولة الاحتلال بعد نكبة عام 1948، نعم نكبة أوسلو قسمتنا وفككتنا وطنيًا ومجتمعيًا، وحولت أرضنا المحتلة في الضفة الغربية إلى "جيتوهات" مغلقة ومعازل، لا تواصل جغرافي بينها، وخلقت وأشاعت في أوساط شعبنا، بأن هناك وهمًا اسمه الدولة والسلطة الوطنية، ولكي نكتشف بعد خمسة وعشرين عامًا من ماراثون المفاوضات العبثية، بأنه لا وجود لشيء اسمه دولة فلسطينية أو سلطة وطنية، بل نحن وجدنا انفسنا أمام سلطة حكم إداري ذاتي للسكان، لا يوجد لها أي شكل من أشكال السيادة، وسلطة إدارية مقيدة الصلاحيات، وبلغة رئيس السلطة أبو مازن "سلطة بدون سلطة". وفي قطاع غزة وإن وجدت هناك سلطة فلسطينية، ولكن جوها وبرها وبحرها تحت السيطرة الإسرائيلية، وشعبها يخضع للحصار الظالم منذ اثني عشر عامًا.
الاحتلال أدرك بأن استمرار وجود شعبنا الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، من شأنه تحويل هذه الدولة إلى دولة ثنائية القومية، أو دولة ذات أغلبية فلسطينية، ولذلك نظر للوجود الفلسطيني على أساس أنه "غدة سرطانية" يجب العمل على اقتلاعه بطرق مشروعة وغير مشروعة، ولذلك كان هناك مشروع تهويد الجليل في عام/1976، وعرابه المتطرف "آرية كنج"، بالاستيلاء على 21 ألف دونم من أراضي الجليل، وليفجر ذلك المشروع انتفاضة يوم الأرض الخالد آذار/1976، التي هب فيها شعبنا هناك للدفاع عن أرضه ووجوده، ولكن هبة أو انتفاضة يوم الأرض الخالد، لم تلغ مخططات وبرامج دولة الاحتلال للسيطرة على الأرض الفلسطينية، فعمليات ذبح الحجر الفلسطيني لم تتوقف للحظة واحدة، فقد جرت عمليات هدم جماعية في بلدة قلنسوة في الداخل الفلسطيني عام48، وقيدت حركة البناء إلى أبعد حد في القرى والبلدات الفلسطينية.
وليأتي ما يسمى بمشروع "برافر" لتهويد النقب، والذي يستهدف الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض التي بحوزة شعبنا الفلسطيني هناك، فمن أصل مليون دونم كانت تمتلكها التجمعات العربية البدوية، لم يتبقَّ سوى مئة ألف دونم بحوزة أبناء شعبنا العربي هناك، وسعي المحتل للسيطرة عليها، حيث مخطط "برافر" يهدف إلى تجميع أبناء شعبنا هناك في تجمعات سكانية، تجردهم من ملكياتهم وأراضيهم، وأعلن المحتل بأن هناك أكثر من 40 قرية فلسطينية، وجودها سابق لوجود دولة الاحتلال، بانها قرى غير معترف بها، ولن يجري تزويدها بالخدمات الأساسية من ماء وكهرباء، وفي هذا الإطار تعرضت قرية العراقيب للهدم للمرة الـ146، وكذلك جرت عملية هدم قرية أم الحيران... والهدم هناك لم يتوقف، بل مشروع "برافر" يطل برأسه من جديد، في ظل "تغول" و"توحش" لقوى اليمين الصهيوني المتطرف التي باتت المسيطر على كل مفاصل دولة الاحتلال، ضمن مجتمع صهيوني مغرق في العنصرية والتطرف، فمن بعد وصول اليمين المتطرف في أمريكا بقيادة المتطرف المتصهين ترامب، وسعيه لشطب قضية شعبنا الفلسطيني وتصفيتها، زادت وتائر العدوان على شعبنا الفلسطيني بشرًا وحجرًا وشجرًا.
وكانت قضيتي القدس واللاجئين الأكثر استهدافًا فيما عرف بخطة صفقة القرن الأمريكية، والتي كشفت إدارتها الرئيسة ورشة البحرين الاقتصادية التي عقدتها الإدارة الأمريكية في المنامة في الـ25 والـ26 من حزيران الماضي، بأنها تتعامل مع قضية شعبنا الفلسطيني على أساس أنها صفقة تجارية، ليست قضية وطن وأرض، بل قضية مال ومشاريع اقتصادية، وقد مهد ترامب وفريقه المتصهين لهذه الخطة بنقل السفارة الأمريكية من تل ابيب إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وسعى لشطب وتصفية قضية اللاجئين عبر تجفيف المصادر المالية لوكالة الغوث واللاجئين الفلسطينيين ومنع توريث صفة اللاجئ، بحيث تقتصر على الجيل الأول، الأجداد وليس الأبناء والأحفاد.
(إسرائيل) استغلت ذلك وسعت لاستثماره سياسيًا من اجل تسريع عمليات تهويد المدينة عبر الاستيلاء على العقارات والممتلكات في مدينة القدس، وتهجير أحياء كاملة، حيث شهدنا ونشهد نكبة جديدة في عمليات هدم لأكثر من مئة بناية سكنية في منطقة واد الحمص، علمًا بأن أغلب تلك البنايات السكنية تقع ضمن المناطق مصنفة (ألف وباء) الخاضعة للسيطرتين المدنية والأمنية للسلطة الفلسطينية، وفق اتفاق أوسلو، وهي حاصلة على ترخيص من الحكم المحلي في بيت لحم.
ولكن هذا الاحتلال، المعرف على أساس أنه دولة فوق القانون الدولي، والذي لا يقيم أي وزن أو اعتبار لا لقوانين ولا اتفاقيات ولا مواثيق الدولية، بفضل ما يحظى به من رعاية وحماية في تلك المؤسسات من قبل أمريكا ودول الغرب الاستعماري، يهدم ويطرد ويرحل دون أي وازع إنساني أو أخلاقي أو اعتبار لقانون دولي، ما دام هو محميًّا من العقوبات بفعل البلطجة الأمريكية والغربية الاستعمارية، وفي ظل نظام رسمي عربي منهار ومتواطئ، لا يقوى حتى على الشجب والاستنكار، ولذلك شهدنا فجر أمس، عمليات هدم لست عشرة بناية في واد الحمص، تحت حجج وذرائع الأمن والقرب من جدار الفصل العنصري.
عمليات هدم المنازل والتطهير العرقي في القدس، لم تتوقف على مدار الساعة، فكل يوم توزيع لإخطارات بالهدم، وهدم للمنازل، وهناك احياء كاملة تواجه خطر الهدم والترحيل القسري والتطهير العرقي، أحياء وادي ياصول والربابة وبطن الهوي وحي البستان في سلوان وكبانية أم هارون وكرم الجاعوني في الشيخ جراح، أكثر من خمسة آلاف منزل فلسطيني هدمت منذ عام 1967، وأكثر من عشرين ألف بيت أخرى لديها إخطارات بالهدم، إنه التطهير العرقي بأبشع تجلياته، في ظل صمت وتواطؤ دولي، في زمن بفعل أمريكا وبلطجتها "تعهر" القوانين والمواثيق الدولية، ويجري تطبيقها بمعاير مزدوجة وانتقائية.
الطرد والتهجير لم يتوقف عند حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل ما يجري في لبنان وما جرى سابقًا من قبل الجماعات والمجاميع الإرهابية في سوريا من استيلاء على كبرى المخيمات الفلسطينية في سوريا، اليرموك، وطرد وترحيل سكانه، وما يحصل الآن بعد قرار وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان، من قرارات جائرة بحق شعبنا الفلسطيني على الأرض اللبنانية، تحت حجج وذرائع تنظيم العمالة المهاجرة والعمالة اللبنانية اولًا، فهذا القرار يحمل في طياته أبعادًا سياسية، وترجمات لما جرى في ورشة البحرين الاقتصادية لتوطين لاجئي شعبنا في بلدانهم أو حملهم على الهجرة لدول اوروبية جرى الاتفاق معها لاستيعابهم مثل كندا وأستراليا.
فوزير العمل اللبناني يدرك ويعرف تمامًا، بأن أبناء شعبنا الفلسطيني ضيوف على لبنان، وهم لا يسعون للتوطين أو الحلول محل اللبنانيين، بل ساهموا في بناء وإعمار وتطور لبنان، ولهم وضعهم القانوني والسياسي الخاص كلاجئين، وهم يعيشون في ظروف غاية في الصعوبة، ويحرمون من العمل في 73 مهنة، وقرار أبو سليمان، صاغته قوى دولية وعربية، تريد تفجير الساحة اللبنانية من باب الفتنة الفلسطينية – اللبنانية، لكي تنفذ مخطط التوطين والتهجير.
ما يجري في القدس في واد الحمص وفي النقب وفي بيروت واحد، ويشكل مرتكزات صفقة القرن الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، ولذلك فعدم الإسراع في التحلل من التزامات أوسلو الأمنية والاقتصادية والسياسية، والشروع في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على اساس برنامج الصمود والمقاومة، يضع كل الأطراف الرافضة لذلك في إطار المشاركة في المخطط الأمروصهيوعربي لتصفية القضية الفلسطينية.