الاحتلال الذكي لا يضرب بعصاه، الاحتلال الذكي يلوح بعصاه، ويضرب بعصا سلطات محلية، يوجدها تحت رعايته، ويدعمها بماله وسلاحه، ويعطيها العصا التي تؤدب الشعب الواقع تحت الاحتلال.
الاحتلال الذكي ليس وليد العصر، لقد حكم الفرس والروم البلاد من خلال سلطات محلية، وفروا لها الدعم، وقد التقت مصالحهم مع مصالح سلطة المحتل المركزية، فواصلوا تقديم الولاء والطاعة للغريب، وحفظ الأمن العام والنظام.
أما الاحتلال الأكثر ذكاءً فإنه يربط مصالح الشعب الواقع تحت الاحتلال بمصالحه، بحيث يصير الهدوء قرين لقمة العيش، ويصير النظام قرين إبريق الزيت، ويصير الحفاظ على الأمن قرين الترقية والوظيفة والسفر، وهكذا تصير التبادلية، هاتوا طاعة عمياء، وخذوا خبزاً طرياً وشربة ماء.
في غزة نجح المحتلون الإسرائيليون نسبياً في تحقيق نظرية المقايضة من خلال الوسطاء الدوليين والعرب، حيث يقول الوسطاء: خذوا مساحة صيد حتى 15 ميلاً بحرياً، خذوا كهرباء ثماني ساعات يومياً، خذوا تسهيلات في المعابر، خذوا سفرًا مقنَّنًا عن طريق معبر مصر، خذوا مستشفى ميدانيًا، وهاتوا الهدوء، مقايضة تقوم على تحقيق أهداف مطلبية وحياتية للشعب الواقع تحت الاحتلال مقابل الالتزام بالهدوء والصمت.
في الضفة الغربية نجح المحتلون الإسرائيليون كلياً في تطبيق نظرية المقايضة، حيث يقدم ممثل الحكومة الإسرائيلية فرص عمل وسفر وتسهيلات معيشية وبطاقات شخصية هامة وامتيازات في الضفة الغربية، ويأخذ الأمن والهدوء والطمأنينة، مقايضة تقوم على السيطرة على كامل الأرض مقابل سيطرة السلطة على الشؤون الحياتية للشعب الواقع تحت الاحتلال، إنها معادلة تعاون وتفاهم وتنسيق وترتيب وتوافق وانسجام، والنتيجة هي: خذوا رغيف الخبز أيها الفلسطينيون، وهاتوا الهدوء والصمت.
ومهما تكن التبريرات والأعذار، وقد يكون بعضها منطقياً، إلا أن نظرية المقايضة خاسرة بالنسبة للشعب الفلسطيني، ولا تصب في نهاية المطاف إلا في مصلحة المحتلين، وهذا ما يجب أن يضع له الفلسطينيون حداً، وأن يبحثوا عن وسائل ضغط على الاحتلال بعيداً عن المقايضة، وقريباً من التنغيص على حياة المحتلين.
في سجن نفحة الصحراوي، قبل ثلاثين عاماً، تطورت سياسة مديرية السجون، وصارت تقوم على المقايضة بدلاً من العصا، وقال لنا مدير السجن: خذوا ساعات بث تلفزيوني مفتوح، خذوا زيت زيتون ومشتريات، خذوا سجائر ومكسرات، خذوا سكر ومهلبية، خذوا احتفالات وطنية وأغاني ثورية، خذوا حكماً ذاتياً داخل الغرف، وهاتوا الهدوء والأمن، وأطيعوا، ونفذوا ما نأمركم به من ضرورات أمنية.
وفي يوم هادئ وحنون، قال لنا مدير سجن نفحة الصحراوي: مطلوب منكم أيها السجناء إنزال سراويلكم حين خروجكم من السجن إلى سجن آخر أو العودة إلى السجن من معبار سجن الرملة.
فماذا نفعل نحن السجناء؟ هل نتخلى عن الامتيازات والمنافع والمصالح، ونرفض إنزال السراويل، أم ننزلها للتفتيش العاري، ونحافظ على المكتسبات التي حصلنا عليها في السجن؟
كان قرار السجناء: نحن نرفض إنزال السراويل طائعين، ولكن، إذا قيدنا السجان بالسلاسل، وقام الضابط نفسه بإنزال سروال السجين للتفتيش، فلا حول لنا ولا قوة!
بعد فترة، وأثناء عودتي من مستشفى سجن الرملة، أراد السجان أن يضع السلاسل في يدي كي ينزل سروالي للتفتيش وفق الاتفاق، يومها رفضت السلاسل، وأسلوب اللف والدوران في إنزال السروال، وقلت للضابط: انتظر، سأنزل السروال بنفسي! خجل الضابط أن ينظر إلى عورتي، وقال: لا داعي، ادخل السجن بسلام.
الفلسطينيون بحاجة إلى إعادة تقييم موقف، ودراسة جديّة لآلية مواجهة الاحتلال لا بالسؤال عن كيفية إنزال السروال!