رصاص مصبوب أبطله عصف مأكول
محمود مرداوي
في شتاء 2012م قُصفت (تل أبيب)، تأسف الصهاينة، لكنهم أُنذروا في صيف 2014م بنية القسام قصف (تل أبيب)، قبل يوم، فزُلزلت.
وفي مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات صَب الاحتلال "رصاصه المصبوب " على غزة، محاولًا اقتناص لحظة تاريخية اعتقد أنها مواتية لاستثمار الأجواء التي أرختها الثورة المضادة على خيارات الشعوب، مستغلًّا الحالة النفسية نتيجة الانتكاسة واعتراض تطلعها إلى الحرية والخلاص من الظلم والاستبداد، عندما استهدف المقاومة على حين غرة، لكنها امتصت الضربات الأولى وامتلكت زمام المبادرة، وبدأت بسلسلة عمليات نوعية: "كعصف مأكول" وإجراءات دفاعية وإنزالات برية من تحت الأرض، وهجمات جوية من السماء، وبحرية من لجج البحر، ردت فيها على عمليات القصف والقتل والتخريب غير المسبوق، في ظل هجوم صاروخي مكثف استهدف مواقع الجيش وقطاعاته على مختلف المحاور من رفح جنوبًا حتى بيت حانون شمالًا باتجاه كل القواعد والمراكز الحيوية واللوجستية التي شكلت ماكنة قتل متكاملة للعدو على مدار 51 يومًا من الحرب.
الأمر الذي اضطر العدو إلى تنفيذ هجوم بري يستهدف عيون الأنفاق ومرابض الصواريخ، ورسالة سياسية تُسوغ قوام القوات الغازية البالغة مئة وأربعة آلاف أمام الرأي العام والجمهور الصهيوني، لبسط السيطرة على مساحات محدودة حول القطاع، لكن هذه القوات فوجئت بمقاومة شرسة، الأمر الذي حوّل ما كان يُفترض أن يكون بسطًا سهلًا لتنفيذ عمليات تكتيكية في إطار الإستراتيجية العسكرية، تؤدي إلى شل عقل المقاومة بضرب مواقعها ومراكز قيادتها؛ فاستمرار القيادة والسيطرة لدى المقاومة على مجريات المعركة وإدارتها جعل العدو مرتبكًا أمام نفسهً، فلم يحقق من قصفه وهجومه شل إرادة المقاومة، فأعادت الحرب إلى مضمونها: صراع إرادات إلى جانب صراع القدرات التي يتفوق بها العدو، فعندما تأكد للعدو أن ثمن استكشاف خطاب المقاومة العملياتي سيُكلفه مزيدًا من قتل الجنود؛ ارتدع عن خوض مزيد من المعارك البرية الطاحنة لتحقيق السيطرة، وعندما عجزت القوات عن تحقيق ذلك بفضل الصمود الأسطوري للشعب والمقاومة، واستمرار انطلاق الصواريخ، والإنزالات من البر والجو والبحر؛ وجد الجيش نفسه مكشوفًا لوابل من قذائف الهاون التي أربكته وشتتت جهوده وأثرت في إمداده وأداء مهماته، مع حرب إعلامية أجادت المقاومة فيها كي الوعي الصهيوني، حتى أصبحت روايتها مُصدَّقة لدى الجمهور الصهيوني على رواية الجيش والمؤسسة العسكرية.
لقد كان إعلامًا تميز بالدقة وعدم التهويل، وقدم معلومات حقيقية بمصطلحات واضحة، فكان الخطاب منسجمًا مع الأداء، متسلحًا بمقاومة راشدة تقتل جنود الجيش الغازي، جيش يقصف ويقتل المواطنين الأبرياء.
لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية خلال المعارك بالممارسة أنها تملك المعلومات الحقيقية عن العدو وتحركاته قبل الحرب وخلالها وما بعدها، لا تبالغ ولا تُخادع، وأكدت ما ترسخ واقعًا في الحروب الثلاث الأخيرة (لبنان الثانية 2006م، والفرقان 2008-2009م، والسجيل 2014م) أن عهد الهزائم قد انتهى إلى غير رجعة.
لقد انتصر الشعب الفلسطيني ومقاومته، وعجزت حرب مدتها 51 يومًا عن كسر إرادة الشعب ومقاومته وفرض شروطها، وما انتفاضة القدس وعمليات الدهس والطعن ومعارك القدس البوابات والرحمة واستمرار مسيرات العودة وما تلاها من جولات تصعيد متتالية إلا تأكيد على تطور أداء المقاومة وجهوزيتها واستعدادها لخوض كفاحها حتى التحرير.
فلا مجال لحرب بلا قتال بعد اليوم، ولا قتال دون قتلى كثر، وما النصر إلا من عند الله، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
--