صوت يخترق نافذة المنزل يُفزع والدة الشاب محمد عبيد (21 عاما)، نظرت من الشرفة مستغربة سبب بكاء أصدقاء فلذة كبدها على مقربة من المنزل: "شو صاير.. ليش بتبكوا"؟! قبل أن يجيبها صوت مرتجف: "الجيش طخوا ابنك محمد"!
نزلت تلك الكلمات كصاعقة على قلبها، تخشى أن تكون لحظة الوداع والفراق، تركت كل شيء بيدها وسابقت الوقت. لم تجد إلا أقدامها تنساق وراء قلبها المضطرب تحت زحمة التساؤلات الداخلية تصرخ "وين محمد.. بدي أشوفه".
تتخطّى والدة محمد قنابل الغاز المسيلة للدموع التي ما زالت تتساقط حولها لإبعاد شباب العيسوية الثائرين، ولم تأبه بوابل الرصاص الكثيف. في تلك اللحظة التي انشغل بها جنود الاحتلال في مطاردة الشباب، كانت هي على بعد أمتار من نجلها. مشهد لم تتوقع حدوثه ولم تتمنى أن تعيشه، لتجده "محمد" ملقى على الأرض تنزف الدماء من جسده بعد إصابته برصاصة أطلقها جندي إسرائيلي لحظة اقتحام العيسوية مساء الخميس الماضي.
مشهد مؤلم؛ أن تقف أمّ أمام ابنها لا تستطيع الاقتراب منه أو ضمه بين ذراعيها، أو حتى إسعافه، فكان قناصة جنود الاحتلال يطلقون الرصاصة تجاه أي شخص يحاول سحبه، إلى أن وصلت المكان وانتشلت الجثمان، بعد أن لفظ محمد أنفاسه الأخيرة ليرتقي شهيدا.
قبل المشهد السابق بساعة يوم (الخميس، السابع والعشرون من يونيو/ حزيران الماضي)، كانت والدة محمد تستعدّ لمغادرة المنزل بصحبته زوجها بناء على طلبه؛ لكن الابن المدلّل والبكر آثر إلا أن تبقى والدته معه: "خليكي هان بالبيت". بلا سبب أراد أن تبقى والدته معه، فشاءت الأقدار أن تبقى لتشهد الحدث وتعيش تفاصيله المؤلمة.
مرّت بضع دقائق على حديث الأم وابنها، حتى استأذنها بالخروج إلى الحارة للجلوس مع أصدقائه في بلدة "العيسوية" شمال شرق القدس المحتلة، ومع مرور الساعات بدأت تعلو في الخارج أصوات رصاص، وقنابل غاز، فتحولت البلدة الهادئة إلى ساحة حرب في لمح البصر نتيجة اقتحام جنود الاحتلال لها ومداهمتها بأعداد كبيرة.
وضعت شرطة الاحتلال شروطًا لتسليم الجثمان لأهالي العيسوية، على أن يدفن ليلًا برفقة عدد محدود من أفراد أسرته، لكن العائلة أصرّت على تشييعه بجنازة كبيرة، حتى استجاب الاحتلال لطلبات العائلة في محاولة منه لاحتواء غضب "العيسوية" ولمنع أشبه بـ"انتفاضة" في البلدة الثائرة.
سلم الاحتلال الجثمان وعاد محمد محملا على الاكتفاء شهيدا، مشهد أراده الاحتلال بعدة أفراد لكن الآلاف خرجوا مرددين: بالروح بالدم نفديك يا شهيد".
"خطفوا طفولته في السجن واليوم أخذوا روحه بدم بارد (..) لا يزال صوته قبل مغادرته يتردد في أذني"، هذا ما تقوله والدته بصوت مليء بالحزن، وهي تكمل في حديثها الهاتفي مع صحيفة "فلسطين" حتى دغدغت مشاعر الفراق قلبها، ومعها قاطعت الدموع الحديث.
طفولة مسروقة
ما أن حط عمر محمد عند سن (15 عاما) حتى بدأت حكايته مع أول اعتقال في سجون الاحتلال، طفل صغير يحرم من حنانه وحضن والدته، غيبته القضبان قسرا عن عائلته ومدرسته، ليجد نفسه في عالم "المنسيين".
لم يبقَ إلا قضبان حديدة تسمع أنين قلب هذا الطفل ودمعاته في جوف الليل، عامان مرت لا يسمع إلا همسات الأسرى وقصص معاناتهم التي كان يسمع عنها فعاش تفاصيلها، أفرج عنه بعد عامين وما أن استنشق الحرية حتى أعاد الاحتلال اعتقاله الإداري وتوالت الاعتقالات من سجن وحبس منزلي بتهمة إلقاء حجارة، لتبلغ في مجموعها أربع سنوات بين تلك القضبان، فكان آخر إفراج في يونيو/ حزيران 2018م، أربع سنوات أكلت من عمر الطفل حتى خرج شابا حرم من دراسته.
بدأ صوت الوالدة كجمرة أذابها ألم الفراق، صوت الدموع يتسلل مرة أخرى عبر سماعة الهاتف امتزج صوتها بالمرارة قائلة: "بعد آخر مرة إفراج عاش معي عاما واحدا قبل أن يرحل شهيدا (..) حاولت تعويضه عن ما فقده من حنان خلال مدة الأسر، وعن المعاملة السيئة التي عاشها داخل تلك السجون، كان يحلم بأن يكوّن أسرة ويتزوج، ويعوض ما فاته من تعليم لكن في الشهر نفسه الذي أفرج عنه في آخر مرة رحل ولكن هذه المرة بلا عودة.
ليس صدفة أن يجتمع محمد بشقيقته سندس (19 عاما) مع والدهما في السجن؛ تتوقف والدته عند هذه اللحظة الأليمة عاشت معها أيامًا صعبة: "في إحدى مرات اعتقال محمد وقبل أن توشك مدة اعتقاله على الانتهاء، اعتُقل والده أربعة أشهر إداري، وتزامن هذا مع اعتقال ابنتي سندس لخمسة أشهر بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن، أفرجوا عنها عندما لم يجدوا أي دليل ادانة لها".