حين لم يجد الاحتلال الإسرائيلي من يتحدث معه، ويقايضه على أمن المستوطنين في وسط قطاع غزة مقابل تخفيف العقوبات عن حياة الناس، اضطر شارون للانسحاب من طرف واحد، متوعدًا بحرق غزة إن أطلقت رصاصة واحدة باتجاه دولته الغاصبة، ولكن بعد ساعات، تجاوزت قذائف المقاومة حدود غزة.
الاحتلال الإسرائيلي يضغط اليوم على مقاومة غزة من خلال معاقبة المواطنين، وتضييق مساحة الصيد، وحرمان محطة التوليد من الوقود، واشترط مقايضة ما سبق بوقف البالونات الحارقة، هذه المساومة المعيشية يجب أن يضع لها رجال المقاومة في غزة حدًا، وألا يسمحوا بالربط بين أدوات المقاومة الخشنة كما يسمونها وبين الممارسات العدوانية الخشنة، فالصراع السياسي قائم بين الشعب الفلسطيني والمحتلين على الأرض وفي مواقع المواجهة، وعليه فإن حرف مضمون الصراع من القضايا السياسية إلى الشؤون الإنسانية يحقق مآرب الاحتلال ليس في غزة فقط؛ وإنما في الضفة الغربية!
رفض فكرة المقايضة تعني تحمل الشعب الفلسطيني مزيدًا من المعاناة والعذاب، هذا ما قالته التجربة التي لم تبرح ذاكرة شعبنا، فقبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة، كان العقاب الإسرائيلي الجماعي ينصب على شارع صلاح الدين وسط قطاع غزة، حيث أقام الجيش الإسرائيلي حاجز "أبو هولي" وقطع غزة إلى نصفين، وكان المواطن الفلسطيني يبيت في الشارع عدة أيام أو عدة ساعات، وهو يعبر مسافة مئة متر تفصل بين خان يونس ودير البلح، مشاهد من المعاناة لم تغِب عن الذاكرة، في ذلك الوقت من الانتفاضة لم يجد الاحتلال طرفًا فلسطينيًا يفاوضه، أو يقايضه على رفع الحواجز مقابل وقف المقاومة، بل ضاعفت المقاومة من فعلها في ذلك الوقت، فحفرت نفقًا أسفل الحاجز الإسرائيلي المذكور، ودمرته على من فيه من الجنود.
مشهد الحصار ذاته يتكرر اليوم بصور مختلفة، والتضييق على حياة الناس تختلف أشكاله، والهدف النهائي لكل ذلك هو البندقية الفلسطينية؛ نزعها أو لجمها من خلال الضغط على حياة الناس، ليكسب المحتلون موقفًا سياسيًا مقابل حياة إنسانية، وهذه المعادلة بشموليتها يجب أن تتغير في غزة والضفة الغربية معًا، لتصير مقاومة الاحتلال واجب وطني، وهذه رسالة شعب يجب أن تقول للمحتلين: إن الضغط على حياة الناس سيفجر المزيد من المواجهات، ولن نقبل بمقايضة أمن المحتلين مقابل الازدهار الاقتصادي أو رفع الحصار.
الطريق الذي أتحدث عنه هو طريق المشقة والمعاناة، طريق التضحية والفداء، وهو الطريق ذاته الذي أوصل الاحتلال الإسرائيلي سنة 2005، إلى نتيجة مفادها أن التخلص من غزة أرحم من البقاء فوق أرضها، فكان لصبر الناس واحتمالهم للعذاب والعقاب فضل التخلص من المستوطنين ومن دوريات المحتلين.
صراعنا مع عدونا صراع وجود، وهذا الصراع يفرض إحداثياته على الجميع، ويطور من أدواته في كل حين، فإذا أراد الشعب الفلسطيني حرية وكرامة ووطنًا عليه أن يدفع الثمن، وأن يقدم من عمره وزهرة شبابه ومستقبله واقتصاده ومصير أبنائه، ولكل عطاء ثمرة، ولكل تضحية ثمن، وفي كل غيمةٍ برقٌ ورعدٌ وانتصار على طول الزمن.