القرآن الكريم كتاب هداية، لذا ما ذكر من القصص القرآني إلا ما يكون فيه عبرة يهتدي بها المتقون ، ولأجل هذه الغاية كان القصص القرآني مركزاًويتمحور دائماً حول هذه الغاية السامية ، لذا نجد أن كثيراً من القصص تضمنت إضماراً لكثير من المسائل الفرعية والتفاصيل الثانوية ، وبالمقابل ما توسعت في شيء إلا لحكمة ، وما أضمرت شيء إلا لحكمة ، لكن من بدائع الإضمار القرآني أنه وإن أغفل التفاصيل إلا أنه ترك لك في ثنايا النظم ما يشعرك بالجو العام الموحي بهذه التفاصيل .
نلحظ في قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة أن القرآن الكريم بالرغم من منهجه في إضمار بعض التفاصيل إلا أنه ذكر حادثة كرم إبراهيم للملائكة في سورتين ، بالرغم من أن الملائكة بطبعها أنها لا تأكل ، لكنها تركت إبراهيم عليه السلام يكمل مهمته في إعداد عجل سمين أو حنيذ لهم ، ولم يخبروه إلا بعدما استهجن منهم عدم الأكل منه ،فلماذا تركوه كل هذه الساعات الطوال يعد الطعام لهم وهم في الأصل لا يأكلون ،هذا الحدث فصل فيه القرآن الكريم ، وبالمقابل أضمر كثيراً من الجوانب المتعلقة بالجو العام والنفسي الذي رافق مهمة الإعداد للطعام ، لكنه في إضماره ترك لنا ما يرشد إلي هذه الأمور المضمرة في السياق .
هنا تتبادر أسئلةمهمة ، وهو لماذا فصل القرآن الكريم في مسألة إعداد إبراهيم عليه السلام الطعام للملائكة ، ولماذا تركه الملائكة ليقوم بهذه المهمة التي لا تصلح لهم ، وما الحكمة من طرح هذه القصة في القرآن وما وجه الهداية فيها بالنسبة لنا ؟ فحياة إبراهيم عليه السلام حافلة بالأحداث فلماذا التركيز على هذا الحدث في موضعين من كتاب الله.
حتى نجيب على هذا الحدث ودلالاته ، لا بد من طرح القصة بسياقها العام الكاشف لبعض الدلالات المضمرة في ثنايا الآيات من بدايتها ، وتفصيل ذلك على النحو التالي :
أولاً : السياق العام للحدث .
زيارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام كان مرتبط بالبشارة بإسحق عليه السلام ، وهذا الحدث كان بعد ميلاد إسماعيل عليه السلام بأربعة عشر عام تقريباً ، وكان إبراهيم عليه السلام قد بلغ من العمر عتياً ، ويقدر عمره بحسب المؤرخين وأهل الكتاب بأنه كان في العقد التاسع من عمره أي قرابة التسعين عاماً أو يزيد ..
وقد قدر الله لإبراهيم عليه السلام إلا يرزق الولد من زوجته سارة ، لكنه رزق ولداً واحدا من سريته هاجر ، وقد جاء إسماعيل لإبراهيم بعد عطش شديد ، لكن جاءه الأمر الإلهي بترك هاجر وولدها أو رضيعها إسماعيل عند واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم .
وبهذا الابتلاء أصبح إبراهيم عليه السلام بعيداً حتى عن ولده الوحيد بأمر إلهي ، وبقي مع زوجته سارة وغلمانه العبيد في مكان بعيد عن ولده ،هذا هو الجو العام للحدث المتعلق بالملائكة وزيارتها ، وهذا ينقلنا للحدث الملائكي .
ثانياً : الملائكة في ضيافة أبي الضيفان .
زيارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذكرت في مكانين في القرآن الكريم ، الأول في سورة هود والثاني في الذاريات ، نبدأ بالذاريات يقول الله سبحانه وتعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) ]
هنا وصف الله ضيف إبراهيم عليه السلام بأنهم ضيف مكرمون ، وفي سورة هود بين أنهم رسل الله يقول الله سبحانه وتعالى : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ ) ؛ لكن يأتي تساؤل مهم وهو لماذا وصفهم الله في الذاريات بأنهم ضيف مكرمون ، وفي آيات اخرى وصف الله الملائكة الكتبة بأنهم سفرة كرام بررة ... فالملائكة كرام .. لكن هنا ضيف إبراهيم مكرمون هكذا بصيغة المبني للمجهول .
هنا هذا التوصيف له دلالات منها : انهم مكرمون لأنهم نالوا أعلى درجات التكريم الإلهي بجعلهم رؤساء للملائكة ، فضيف إبراهيم عليه السلام لم يكونوا أي ملائكة بل رؤساء الملائكة ، تذكر كتب التفسير أنهم ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ويحتمل لدي أن يكون معهم أيضاً ملك الموت .
فهم مكرمون لأنهم نالوا أعلى درجات التكريم من الرحمن ، وهم مكرمون أيضاً لأنهم نالوا بركة ضيافة خليل الرحمن في الأرض .. فالسياق يخدم المعنيين بقوة .
ويظهر من سياق الآيات أنهم فاجئوا إبراهيم عليه السلام في الدخول عليه فقالوا له سلاماً .. فقال لهم : سلامٌ .. وهذا السياق في السورتين . رد إبراهيم عليه السلام هنا يرشد إلى أنه رد التحية بأحسن منها لأن علامة الرفع أقوى من علامة النصب .. فجاء السياق بنظمه وإضماره ليرشد إلى أن إبراهيم رحب بهم ورد التحية لهم بأحسن منها ، وهذا أول درس عاينه الملائكة ، وعلى قول المثل لاقيني ولا تغذيني .. والترحيب بالضيف الغريب يدل على نفسية رائعة للمضيف واستعداده العالي لإكرام هذا الغريب .. وهذا واضح من الكلمة الأولى في السياق .
لكن في سورة الذاريات جاء الرد عجيباً يقول الله سبحانه وتعالى : [إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) ] هنا أضاف كلمة منكرون .. وهذه الكلمة توحي لك بالحدث كاملاً ، فكل منطقة تعرف أهلها ، لكن هؤلاء الضيف من منظرهم ودلائل حالهم ما يرشد إلى أنهم أغراب ومن مناطق بعيدة جداً عن محيط إبراهيم عليه السلام ، لذا كان في صلب التحية فقط الإشارة إلى ذلك ، وكأن إبراهيم في سياق ترحيبه بهم قال لهم أهلاً بالضيوف يظهر أنكم ليسوا من أهل هذه المناطق وأغراب على هذه الناحية ... هذا فقط ما حصل من حوار بين إبراهيم عليه السلام وبين الضيف .. لكنه لم يستفسر أي شيء عنهم غير بيانه فقط أنه يظهر من دلائل أحوالهم أنهم أغراب على كل المنطقة ، وهذا ما توحي به كلمة منكرون التي ذكرت في سياق التحية نفسها .
يتبع.....