بعد تحرري من الأسر بفترة قصيرة، قالت لي زوجتي: سأتحدث لك بصراحة، لقد كانت حياتنا المعيشية قبل تحررك من الأسر أفضل بكثير من حياتنا الراهنة، قلت لها باستغراب، كيف ذلك؟ قالت: كانت تأتينا المساعدات من كل الجهات، وكان أهل الخير يدقون الباب صباح مساء بكل الحاجيات، حتى أن المعلبات والمأكولات والملبوسات كانت تفيض عن حاجتنا.
لقد صدقت زوجة الأسير المحرر، فعلى هذه الأرض المباركة لا يجوع ابن أسير، ولا يشعر بالضيم ابن شهيد، ولا تموت أرملة أو مطلقة من الجوع، ولا يشعر بالغربة جريح، في هذه البلاد تتشقق القلوب، وتتفتح الجيوب بالعون والمساعدة لعوائل الأسرى والشهداء بلا وجل أو تردد.
في المجلس الأعلى للقضاء الشرعي مئات القضايا والملفات قيد المعالجة، ملفات تستنزف الوقت، وجلها يتعلق بالمحاسبة المالية، وفض الخصومة بين الأرملة التي تحتضن أطفال الشهيد، وبين والد الشهيد الذي ينشغل بمستقبل أحفاده أبناء الشهيد، والخلاف حول مصير المساعدات التي تأتي للأطفال القصر، هل تدخل إلى حسابهم، لتكن سندهم في المستقبل، أو تتهرب هنا وهناك وفق هوى الأرملة، وارتباطها بأهلها، حساباتها للمستقبل، فغياب المحاسبة يحض على التسيب المالي، ولاسيما أن كثيراً من المؤسسات تحرص على تقديم المساعدات المالية باسم أرملة الشهيد مباشرة، ولا يعنيها كيف تنفق الأموال، ولا تعرف شيئاً عن الجهات الأخرى التي تقدم المساعدات للأسرة نفسها.
في المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، وهي الجهة التي تتكسر على شواطئها أمواج الخصومة، وهي الجهة المعنية بعودة الأموال إلى مستحقيها دون تسريب، هنالك قضايا محاسبة لبعض الأرامل تتجاوز مئة ألف شيكل، وهنالك قضية محاسبة لأرملة شهيد تجاوز المبلغ الذي قبضته منذ حرب 2014 وحتى اليوم 290 ألف شيكل، ما يعادل 82 ألف دولار تقريباً، مثل هذه القضايا فرضت على المجلس الأعلى للقضاء الشرعي بأن يفكر في آلية عمل مشترك، تضبطأموال اليتيم، وتحفظ حق الأرملة، لذلك طرحوا فكرة جديرة بالاهتمام والمتابعة، فكرة تهدف إلى صب كل المساعدات في الحساب الشخصي للأيتام القاصرين، على أن تقرر المحكمة الشرعية المبلغ الذي تحتاجه كل أسرة كمصاريف شهرية، وبهذه الطريقة يتم ضبط المساعدات دون تهريب أو أطماع أو اعتداء، وضمن هذه الآلية تتم محاصرة الشك، فلا تخضع المساعدات التي تأتي للأيتام لهوى النفس التي توسوس بالسوء، ولم يأت القرآن الكريم على ذكر مال اليتيم في اكثر من آية إلا دراية من الخالق بمكنون نفس المخلوق التي تلهو في ملذات الدنيا متجاهلة عقاب يوم الدين.
فكرة الضبطالمالي التي يطرحها مجلس القضاء الأعلى قد تجد صعوبة في التطبيق، فبعض المؤسسات المتبرعة لا تحبذ التدخل في آلية عملها، ولكن هذه المؤسسات ستجد نفسها مجبرة على الالتزام بالتوجه العام الذي سينجم عن ورشة عمل، أو لقاء تشارك فيه وزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الداخلية بصفتها الجهة المشرفة على عمل الجمعيات والمؤسسات المتبرعة، وتشارك فيه الأونروا، وهي جهة تقدم بعض المساعدات في هذا الشأن، بالإضافة إلى ممثل عن كل جمعية ومؤسسة لها علاقة وثيقة بأسر الشهداء والأيتام بشكل عام، ولا بأس من توسيع الدائرة بمشاركة نقابة المحامين، وممثل عن مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى، وكل مؤسسة لها علاقة مباشرة بهذا العمل الإنساني الذي سيجتث من الجذر أسباب الخصومة، ويغلق عشرات الملفات المفتوحة للمحاسبة في أروقة المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، ولما تزل قيد النظر بين يدي القضاة في المحاكم الشرعية المتناثرة من شمال قطاع غزة وحتى جنوبه.