قبل ما يقرب من الخمسة عشر شهرًا، نفذ الشهيد مهند الحلبي عملية طعن في البلدة القديمة في مدينة القدس، وكانت النتيجة مقتل إسرائيليَين وإصابة آخرَيْن بجراح، ولكن النتيجة الأبعد لهذه العملية، هو انطلاق سلسلة من عمليات الطعن وعمليات الدهس التي نفذها فلسطينيون في كثير من المواقع، لقد تواصلت هذه العمليات وتصاعدت حدتها من حين لآخر، وأخذ بعضها شكل المواجهات في نقاط التماس في أغلب المدن الرئيسة في الضفة الغربية.
لقد تكونت خشية في دوائر قرار متعددة من أن تتحول هذه المواجهات إلى حركة جماهيرية يصعب السيطرة عليها، إذ انطلقت هذه الأحداث متأثرة بتراكمات احتلالية تصعيدية وخاصة في المسجد الأقصى، حيث بات اقتحامه ديدنًا يوميًا مدروسًا من خلال إتاحة المجال لأعداد كبيرة من المستوطنين لدخوله من الساعة السابعة صباحًا وحتى قبيل صلاة الظهر، وفي مقابل ذلك منع المصلين والزائرين المسلمين من دخوله في هذه الفترة، إضافة لإجراءات تقوم بها الدولة العبرية نحو ما تسميه التقسيم الزماني والمكاني. في مقابل ذلك قامت بإجراءات عقابية تجاه المرابطات والمرابطين بإبعادهم واعتقالهم أحيانًا وتقديمهم للمحاكمات، والتي غالبًا ما تكون نتيجتها الإبعاد عن المسجد الأقصى وعدم دخوله لفترات زمنية معينة.
اليوم وقد مرّ على هذه الأحداث أكثر من عام، فإنّ الإحصائيات الواردة تدلل على أنّ ما يحدث في الضفة الغربية المحتلة وشرقي القدس ما هو إلّا انتفاضة نخبويّة ذات طابع فردي تسير كما يسير الماء بين شقوق الصخر، فقد أظهرت الإحصائيات أنّ عدد شهداء هذه الانتفاضة في عامها الأول بلغ 250 شهيدًا وحوالي 4800جريح وحوالي سبعة آلاف من الأسرى. في حين سقط في هذه الانتفاضة في عامها الأول 40 قتيلا إسرائيليًا و751 جريحًا، كما شهدت 33 عملية دهس و183 عملية إطلاق نار و198 عملية بعبوات محلية الصنع و1422 زجاجة حارقة و4234 عملية رمي حجارة.
وبالنظر لآخر أربعة شهور فإن من يدقق النظر يرى أنّ وتيرة الأحداث فيها شبه ثابتة من حيث نوعية العمليات التي تقع، ففي شهر تشرين أول 2016م، سقط خمسة من الشهداء الفلسطينيين وأصيب 185 جريحًا، في حين نفذ الفلسطينيون تسع عمليات إطلاق نار و43 زجاجة حارقة وخمس عمليات طعن، وقد أصيب في هذا الشهر ست وثلاثون إسرائيليًا، وفي شهر تشرين الثاني من عام2016م سقط ستة شهداء وأصيب مئات الجرحى، في حين وقعت ثماني عمليات إطلاق نار وألقيت 77 زجاجة حارقة ووقعت أربع عمليات طعن، وقد أصيب ثمانية وعشرون إسرائيليًا وقتل مستوطن واحد، وفي شهر كانون الأول من عام2016م، سقط عشرة شهداء وأصيب مئات الجرحى، ونفذ الفلسطينيون أربع عشرة عملية إطلاق نار وتم إلقاء 109 زجاجات حارقة وعبوات محلية وحدثت عملية طعن واحدة، في حين أصيب ثمانية وأربعون إسرائيليًا وقتل اثنان، وفي شهر كانون الثاني من عام2017م، سقط خمسة شهداء وأصيب حوالي ثلاثمئة جريح فلسطيني، وحسب مصادر عبرية فقد نفذ الفلسطينيون ثمانٍ وتسعون عملية، منها عمليات إطلاق نار وإلقاء ما يقرب من ست وخمسين زجاجة حارقة وعبوات محلية، في حين أصيب ما يقرب من 33 مستوطنًا وقتل ستة؛ أربعةٌ منهم في عملية دهس بشاحنة في مدينة القدس.
في كل يوم تشتعل عشرات نقاط المواجهة التي يحمل بعضها الطابع الفردي، سواء رمي الحجارة أو الزجاجات والعبوات وأحيانًا إطلاق النار، ولكن ما يحدث هو تكتم واضح من الأجهزة الأمنية الاحتلالية وبالتالي لا تصل لوسائل الإعلام، وقد يكون السبب في ذلك هو عدم إثارة الوضع في الشارع الإسرائيلي من جهة وعدم تحفيز من لديه رغبة من الفلسطينيين بأن يلتحق بركب المواجهة، ولا يوجد ما يبرر عمليات الاعتقال المحمومة يوميًا التي تطال عشرات المقاومين في كافة مدن الضفة الغربية إلّا ما يحدث على أرض الواقع الذي يعبر عن هذه المواجهات.
ليس المقصود من ذكر الأرقام سوى شيء واحد وهو أن وتيرة هذه الأحداث تشير ودون أدنى شك إلى أن الذي يحدث في الضفة الغربية والقدس ما هو إلّا انتفاضة تشتعل نارها، وقد عجزت دولة الاحتلال عن إخمادها، وذلك على الرغم من الإجراءات اليومية التي تقوم بها من اعتقالات ومداهمات واقتحامات للمدن والقرى والمخيمات، حيث تطال هذه الإجراءات العشرات يوميًا، عدا عن الإغلاقات للكثير من الطرق الداخلية والخارجية.
إنّ الأسباب التي اندلعت من أجلها هذه الانتفاضة الفردية، ما زالت حاضرة ويراها كل فلسطيني سواء في القدس أو ما يحدث داخل المسجد الأقصى أو في الضفة الغربية وما يحدث من مضايقات ومصادرات للأراضي الفلسطينية على مرأى ومسمع العالم أجمع، ويضاف إلى ذلك القرارات التي تصدر عن الكنيست والتي كان آخرها قانون التسوية الذي يجيز مصادرة الأراضي الفلسطينية من أجل الاستيطان. فإن المتوقع لهذه الانتفاضة أن تمضي وتشق طريقها، وإذا أضيف إليها توجه فلسطيني رسمي بعد أن أفشلت إسرائيل حل الدولتين من خلال شرعنة البؤر الاستيطانية وتصعيدها مستغلة ما يجري على الساحة الإقليمية أو الدولية، والتي كان آخرها انتخاب رئيس أمريكي داعم للمشروع الصهيوني، فإن أي انخراط للفصائل الفلسطينية يجعل هذه الانتفاضة تخرج عن صمتها وتسطر صفحة أخرى في تاريخ النضال الفلسطيني.