مناسبتان لكتابة هذه المقالة، ليست منهما الذكرى الخامسة والتسعون لوفاة فرانز كافكا في 3 يونيو/ حزيران الحالي. الأولى، مطالعة صاحب هذه الكلمات كتابا رائعا في الجهد البحثي في مسألته، هو تنويعٌ على أطروحة دكتوراة لكاتبه، أستاذ الأدب المقارن في جامعة ماربورغ الألمانية، عاطف بطرس العطّار، صدر للتو، "كافكا عربيا.. أيقونة تحترق" (دار المتوسط، 2019). والثانية، تسليم الحكومة الألمانية السلطات الإسرائيلية، أخيرا، خمسة آلاف وثيقة تخصّ كافكا وصديقه ماكس برود (توفي في 1968)، نشر أنها كانت مسروقة، وضبطتها الشرطة الألمانية، ثم قضت المحكمة العليا في (إسرائيل) بنقل ما لدى أسرة أستير هوف (سكرتيرة برود وحبيبته، توفيت في 2007) من إرثٍ لكافكا لديها إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية، تنفيذا لقرار المحكمة نفسها قبل عامين وجوب نقل كل أرشيف كافكا وكتاباته ومتعلقاته، من أي مكانٍ بشكل دائم، إلى هذه المكتبة، بدعوى أحقية الدولة العبرية بتراث أي أديبٍ أو عالم يهودي، بغض النظر عن موطنه وبلده.
ولا نظنّه تزيّدا القول إن (إسرائيل) إنما تقوم بعملية سطو على الكاتب التشيكي، الألماني اللغة، فرانز كافكا، إذ تنسبُه إليها، من مدخل يهوديته فقط. وغريبٌ أن تستسلم الدولة الألمانية لهذا الأمر، وتتنازل عن انتساب أدب الكاتب الشهير الذي توفي عن 40 عاما إليها، وهو الذي لم يكتب قصصه ورواياته ومقالاته وخواطره ويومياته (ومسرحيته الوحيدة) بغير اللغة الألمانية. ويعدّ من أشهر أصوات الأدب العالمي، سيما في اللون الذي اختصّ به نتاجُه، المطبوع بالكابوسية والعبثية والسوداوية والغموض، وكان له أثره الواسع على أدباء كثيرين في العالم، فصارت "الكافكاوية" سمْتا خاصا في الكتابة. وعلى قِصر حياته، صدر أحدث كتابٍ عن سيرته في 2014 في فرانكفورت في ثلاثة مجلدات، في أزيد من ألفي صفحة. وعلى قلّة أعماله، ظلّ كافكا موضوعا جذّابا للدرس والبحث، ومغريا للترجمات التي لم تتوقف. ومنذ تعريف طه حسين قرّاء العربية به في 1946، لم تتوقف المطالعات والدراسات والنقاشات العربية الوفيرة بشأنه، ولا تزال البحوث والكتب تتوالى لنقاد وكتّاب عرب عن "الكافكاوية" في الأدب العربي، وقد قال جمال الغيطاني، مرّة، إن كافكا هو "القدّيس الذي فتننا بشدّة، نحن جيل الستينيات".
ومن أسئلةٍ غير قليلةٍ انشغل بها كتّاب وناقدون ودارسون عرب، منذ نحو خمسين عاما، بشأن صاحب "المسخ"، ما إذا كان صهيونيا أم لا. وقد أضاء عاطف بطرس العطّار في كتابه على هذا الانشغال بإحاطةٍ وافيةٍ، وكشف في الأثناء تشويها وفيرا تعرّضت له نصوصٌ لكافكا في ترجماتٍ إلى العربية، ونقصانا للدقة وانعداما للدراية في نقولاتٍ كثيرةٍ عن الكاتب المثير للجدل إلى العربية، وفي معالجاتٍ ومطالعاتٍ لأدبه وظاهرته، وكذلك في أثناء السجال بشأن صهيونيته وعدمها. وفي البال أن الانقسام العربي عريضٌ في هذا الخصوص، على أن الشواهد التي تنقض رمي كافكا بالصهيونية أشدّ متانةً وأقوى إقناعًا، أقلّها بحسب ما بسطه البحث التحليلي المدقّق والموثق في كتاب عاطف بطرس العطّار الذي يذكّر بالواقعة الطريفة، لمّا وجهت عضو مجلس الشعب السوري في 1996، الأمينة العامة للحزب الشيوعي السوري، وصال بكداش، سؤالا إلى وزيرة الثقافة، نجاح العطار، مستنكرةً فيه "أن يُنشر كتاب في دمشق عن كافكا الصهيوني، في إطار سلسلةٍ تموّلها الدولة"(!).
واحدةٌ من حيثيات اعتبار فرانز كافكا صهيونيا، وهو الذي سأل مستهجنا، في رسالةٍ إلى حبيبته، عن المشترك بينه وبين باقي اليهود، فيما هو بالكاد يملك شيئا مشتركا بينه وبين نفسه، أن صديقه الذي أودع عنده مخطوطاتٍ ورسائلَ وأوراقا ونصوصا وأرشيفا كثيرا، ماكس برود، كان صهيونيا وارتحل إلى فلسطين. وربما يجد متحمّسون للقول بصهيونية كافكا في حرص (إسرائيل) على خطفه، وامتلاكه، وانتزاع أرشيفه ومستنداته، وإيداعِها في مكتبتها الوطنية، حجةً لما يروْن، سيما مع شحّ القرائن التي تدعم هذا الأمر في نصوص كافكا وأعماله نفسها. ولكن الأدْعى للاهتمام، ولتقصٍّ جدّيٍّ في أمره: كيف تجرؤ (إسرائيل) على ادّعاء حقٍّ لها بامتلاك أي إرثٍ لأي أديبٍ يهودي؟ وكيف تستجيب ألمانيا لذلك؟ وكيف تخوض دولة الاحتلال منازعاتٍ قانونيةً في هذا الأمر، ثم تكسبها؟
العربي الجديد