71 سنة على نكبةٍ خلفها الانتداب البريطاني الذي منح ما لا يملك لمن لا يستحق، لكن الشعب الفلسطيني، صاحب أرض فلسطين الأصلي، لا يزال يقاوم ويؤكد: العودة آتية.
فتح آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطاني السابق، درجه المغلق بعدما وصلته برقية من الجنرال اللنبي تحمل نبأ إتمام الجيش البريطاني غزو مدينة بئر السبع سنة 1917 وأعلن ما أصبح يُعرف بوعد بلفور الذي ضيّع فلسطين ولا يزال حتى الآن.
وبداية هذا الحدث، الذي تتتبعه صحيفة "فلسطين" استنادا إلى ما ورد في أطلس فلسطين للدكتور سلمان أبو ستة، كانت عندما شن الجيش البريطاني في 31 أكتوبر 1917 هجوما مفاجئا ساحقا اكتسح فيه موقع الحامية التركية الصغير في مدينة بئر السبع.
وجاء الهجوم من جهتي الجنوب والشرق في حين كان من المتوقع أن يأتي من جهة الغرب. وهكذا أنزل العلم التركي الذي كان يواجه المسجد، ورُفع العلم البريطاني وبهذا انتهى عهد من الحكم العربي الإسلامي استمر 1400 عام.
وكان الجيش البريطاني الغازي بقيادة الجنرال اللنبي الذي خلف الجنرال موراي في يونيو 1917 بعد إخفاق الأخير مرتين في الاستيلاء على غزة، وقد تكبدت القوات البريطانية خسائر فادحة في ذلك الهجوم الفاشل.
ودكت مدافع الجنرال اللنبي ودباباته الحديثة العديد من المباني في غزة محولة إياها إلى ركام بما في ذلك أبنية تاريخية كالسراي الحكومية، ولم يسلم المسجد العمري العريق من الدمار الشديد أيضًا.
وكان الجيش البريطاني الغازي يتألف من 150 ألف جندي، ويضم فرقا من البريطانيين والأستراليين والنيوزلنديين والهنود.
ومثلت بئر السبع مفتاح الدخول إلى فلسطين من بوابتها الجنوبية، وأصبحت فلسطين مشرعة الأبواب أمام الاحتلال البريطاني.
وقبل أشهر من ذلك كانت تجري في بريطانيا محادثات بين بلفور وعالم كيمياء يهودي وهو حاييم وايزمان هدفها إصدار إعلان بتسهيل إنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين.
وكانت رسالة وعد بلفور المؤلفة من 67 كلمة، والمذيلة بتوقيعه، موجهة إلى اللورد روتشيلد أحد وجهاء اليهود الإنكليز المعروف بتعاطفه مع المطامح الصهيونية.
وكان ثيودور هرتزل وهو الأب المؤسس لفكرةالصهيونية أول من وضع تصورا مفصلا للفكرة في كتابه "دولة اليهود" الصادر عام 1896، وبعد عام عقد هرتزل المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية.
لكن جهود هرتزل الرامية للحصول على تأييد الأوروبيين لفكرته لم تكلل بالنجاح، كما واجه الرفض من السلطان التركي عبد الحميد الحاكم المطلق للإمبراطورية العثمانية الفقيرة التي كانت في طريقها للأفول.
أقلية يهودية
وبعد عقدين على الأقل من المحاولات الفاشلة مع القوى الاستعمارية الأوروبية تمكنت الحركة الصهيونية من إحراز النجاح وبجرة قلم ألغى وزير الخارجية البريطاني التصريح الأنغلو-فرنسي الصادر عام 1918 والقاضي بإنشاء حكومات حرة ومستقلة في المنطقة العربية المحررة وذلك لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وبموجب معاهدة سايكس-بيكو التي أبرمت عام 1916 وُضع العراق وفلسطين تحت السيطرة البريطانية.
وقد مهد وعد بلفور لأكثر من 90 عاما من المعاناة وسفك الدم الفلسطيني، ويقول المحامي الفلسطيني هنري كتن: "كان وعد بلفور لاغيا من الوجهة القانونية وشريرا من الوجهة الأخلاقية وخبيثا من الوجهة السياسية".
واستخدم المسؤولون الصهاينة نفوذهم لإضافة مضمون وعد بلفور إلى وثيقة انتداب فلسطين الذي أصبح هدفه تسهيل استعمار البلد عن طريق الهجرة اليهودية والاستيطان بغية إنشاء وطن قومي لليهود.
ومنحت حكومة الانتداب في فلسطين حقوقا سياسية ومدنية كاملة للأقلية اليهودية وليهود الشتات؛ لكنها لم تعترف بالحقوق السياسية للشعب العربي الفلسطيني الأصلي الذي يشكل أغلبية تبلغ 92% من السكان وكانت تشير إليه بتعبير السكان غير اليهود الموجودين في البلد.
وأقر رونالد ستورز الحاكم البريطاني للقدس خلال الفترة 1917-1926 الذي كان يعتبر الصهيونية أداة لدعم المصالح البريطانية في المنطقة، بأن المستفيد من "انتداب" فلسطين "أي يهودي وحيثما كان يعيش".
وعُين هربرت صموئيل المستشار السابق للمفوضية الصهيونية بقيادة وايزمان، أول مندوب سام لفلسطين في يناير/كانون الثاني 1920. ولم تقم عصبة الأمم المتحدة بالتصديق على الانتداب قبل 24 تموز/يوليو 1922 أي بعد عامين من تعيين صموئيل.
ويعني ذلك أن تعيين صموئيل قبل الأوان كان بمثابة خرق للقانون، وخلال مدة تعيينه (1920-1925) أشرف صموئيل على استصدار ما ينوف على 100 قانون محلي وقد مهدت تلك القوانين الطريق أمام إنشاء البنى التحتية الأساسية "للدولة اليهودية" المزعومة.
وتضمن ذلك تشريعا يتعلق بالهجرة اليهودية وباستخدام الأراضي وبالاعتراف بالعبرية كلغة رسمية وبالاعتراف بيوم السبت كعطلة رسمية وإنشاء مصارف للإقراض لتسهيل بيع الأراضي وتأسيس جمعيات تعاونية يهودية، وهكذا وضعت الأسس المتينة للانفصال التي مهدت لقيام (إسرائيل) على حطام فلسطين.
كما أُسست الوكالة اليهودية للتنسيق مع الإدارة البريطانية بشأن إنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين وبدأت المنظمات الصهيونية شيئا فشيئا في الحصول على الأراضي اللازمة "لتوطين" اليهود، ولو أن نجاحها في هذا المجال ظل محدودا، لكن الأهم هو أن الهجرة الجماعية أوجدت أقلية يهودية لا يستهان بها.
وبحلول 1948 كان السكان اليهود يشكلون 30% من مجموع سكان فلسطين، كما تمكنت الحركة الصهيونية من تكوين وحدات مقاتلة مسلحة مستقلة ونظاما تعليميا وبنى تحتية صناعية شملت توليد الكهرباء وشبكات مياه وقطاع الإنشاء ونظام مصرفي واتحاد عملاي يقتصر على اليهود.
وأدى ذلك إلى معارضة الأغلبية الفلسطينية العربية الأصلية التي رفضت إنشاء دولة أخرى على أراضيها. وعبّر الفلسطينيون عن قلقهم العميق إزاء الهجرة الجماعية اليهودية وإزاء فقدانهم لأرضهم لصالح الاستعمار الصهيوني ومحاولات تغيير الواقع الديني للبلد.
ولم يترك الفلسطينيون وسيلة سلمية تخطر على بال إلا ولجأوا إليها لعرض مشكلتهم، ومن ذلك مطالبتهم بانتخاب مجلس نيابي انتخابا ديمقراطيا وإنشاء مؤسسات حكومية مستقلة كما وعد الحلفاء قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها.
لكن ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني لم يكن يقبل بتطبيق قواعد الديمقراطية ما دام الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الأغلبية في فلسطين، وما دام المهاجرون اليهود لم يحصلوا بعد على مساواة عددية مع العرب ولم تتكون لهم قاعدة قوية في البلاد تمكنهم من السيطرة عليها بالقوة.
لكن الفلسطينيين استمروا في جهودهم للمطالبة بالاستقلال فقد عقدوا المؤتمرات الوطنية التي حضرتها زعامات كل منطقة من مناطق فلسطين، وبعثوا بالوفود إلى لندن وأرسلوا العرائض إلى القوى الأوروبية وحتى إلى البابا، كما خرجوا في مظاهرات ملأت الشوارع.
وجرت صدامات عدة بين الفلسطينيين وبين البريطانيين والمهاجرين الجدد، وحدث ذلك في العامين 1921 و1929 وفي سياق الإضراب العام والثورة العربية الكبرى ضد السياسة البريطانية التي استمرت من عام 1936 ولغاية 1939.
وشكلت الحكومة البريطانية لجنة للتحقيق (لجنة شو) بعد اندلاع اضطرابات خطيرة عام 1929 وذلك عندما أنشأ اليهود لأنفسهم ممرات إلى حائط البراق، إذ عد الفلسطينيون تلك الممرات محاولة للتغيير الواقع الديني في المدينة القديمة. وتوصلت اللجنة الدولية التي زارت فلسطين في حزيران/يونيو عام 1930 إلى نتيجة مفادها أن الجدار ملكية إسلامية.
وعندما بدأت المقاومة الفلسطينية تتصاعد شرعت الإدارة البريطانية بتبني إجراءات أكثر قسوة لقمع الشعب الفلسطيني فاستدعت تعزيزات عسكرية وحلت جميع الأحزاب والجمعيات الفلسطينية ومنعت اقتناء الأسلحة وطبقت العقوبات الجامعية بحق سكان القرى فهدمت المنازل ودمرت المؤن الغذائية وجمعت الرجال أقوياء البنية لاحتجازهم. كان اقتناء مسدس كافيا لحكم الإعدام واقتناء سكين يقود إلى السجن لمدة طويلة.
وفي الوقت نفسه، كانالجيش البريطاني يؤمن التدريب والدعم للمليشيات اليهودية التي تشكلت قبل قيام (إسرائيل) وهي قوات الهاغانا، وما إن جاء عام 1939 حتى قصمت بريطانيا ظهر فلسطين بنكبة سبقت نكبة فلسطين الكبرى بعشر سنوات.
وفي أيار/مايو 1942 اجتمع 600 مسؤول صهيوني في مدينة نيويورك في فندق بلتمور وأعلنوا برنامجا يقضي بإنشاء "كيان يهودي في كامل فلسطين ضمن بنية العالم الديمقراطي الحديث".
وجاء البرنامج ضربة أخرى للتطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني.
ومارس هاري ترومان رئيس الولايات المتحدة الضغط على بريطانيا لتسمح بهجرة 100 ألف يهودي جديد إلى فلسطين في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة بموافقة الوكالة اليهودية تضع العراقيل أمام دخول اليهود إليها.
وقررت بريطانيا في 28 أبريل/نيسان 1947 إلقاء المشكلة الفلسطينية على كاهل الأمم المتحدة التي كانت قد أنشئت حديثا، وكان عدد السكان اليهود في فلسطين قد تضاعف عشر مرات خلال ثلاثة عقود تقريبا من الحكم البريطاني عن طريق الهجرة بصورة أساسية كما تضاعف معدل امتلاك اليهود للأراضي خلال نفس الفترة اربع مرات.
وجاء ذلك بعدما ساعدت حكومة "الانتداب" البريطاني الحركة الصهيونية على إنشاء بنية لحكومة مؤقتة إضافة إلى قوة عسكرية تضم ما يقارب 60 ألف مقاتل في الوقت الذي كانت تقوم فيه بنفي الزعماء الفلسطينيين أو منعهم من المشاركة في العمل السياسي كما كانت البنية المدنية الفلسطينية تتعرض لضربات بريطانية قاسية بحيث لم تتمكن من بناء آليات الدفاع عن النفس ضد خطط الغزو الصهيوني المرتقب.
عدوان
من جهته يقول الباحث في مركز التاريخ الشفوي والتراث الفلسطيني د. رشاد المدني: كانت هناك محاولات بريطانية منذ القدم لإنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين، وقد أدرك بلفور ذلك وتوجه بـ"وعد".
ويوضح المدني لصحيفة "فلسطين" أن بريطانيا كانت تعرف أنها تتواجد في فلسطين لتهيئة الأجواء للاحتلال "الصهيوني"، وحتى عندما أعلنت "انسحابها" سلمت كل المطارات والدبابات والمتاع للحركة الصهيونية.
ويشير إلى أن بريطانيا كانت ترمي من ذلك إلى إيجاد ركيزة استعمارية لتحقيق أهدافها، مبينا أن ما جرى ليست انتدابا، بل عدوانا واحتلالا.
وعن اختيارها فلسطين بالتحديد، يبين المدني أن بيت المقدس والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين يقع فيها، وهي أرض الإسراء والمعراج ولها أهمية تاريخية واستراتيجية وجغرافية وسياسية وعسكرية وحتى مناخية، مشيرا إلى أن "الصهاينة" اخترعوا بعد ذلك خرافات أن هذه الأرض لليهود ومزاعم أنها ليست للشعب الفلسطيني الذي هو صاحبها الأصلي.