لم يَدُر في خَلَدِ أهل مدينة الشيخ زايد شمال قطاع غزة، أن جريمة إسرائيلية بشعة ستختطف من بين حيّهم أسرةً كاملة بغتة ودون سابق إنذار، أصغرها الرضيعة "ماريا" التي لم يتجاوز عمرها الثلاثة أشهر.
في اليوم المشهود، وبالتحديد الأحد الماضي، نزل أحمد الغزالي (31 عامًا) وزوجته إيمان أصرف (30 عامًا) صباحًا من شقتهما التي يعيشان فيها بـ"الإيجار"، في الطابق الخامس ببرج (12)، إلى الدور الأرضي عند شقيقته إيمان (35 عامًا) في البرج نفسه، معتقدين جميعًا أنها أكثر أمنًا من صواريخ الاحتلال الغادرة.
وفي عصر اليوم ذاته، صعدا مجددًا إلى شقتهما، حينها اتصلت بهما شقيقته لينزلا من هول القصف المسموع في كل أرجاء قطاع غزة، فالاحتلال يستهدف كل شيء، وخاصة البنايات السكنية الضخمة والعالية.
طلب منها أحمد الصعود عندهما إلى حين ترتيب أغراضهما، فجلست شقيقته وزوجته وبين ذراعيها رضيعتهما "ماريا".. كانت قلوب الجميع متوترة، فالأحداث في الخارج صعبة منذ الجمعة، تستعيد إيمان المشهد من جديد وهي تروي ما حدث لصحيفة "فلسطين": "جلسنا على شاشة التلفاز، وكان المشهد المعروض للحظة قصف عمارة القمر بمدينة غزة، تأثرنا كثيرًا بما رأيناه من دمار، وشعرنا أن الأمور تتجه للأسوأ".
أعربت إيمان عن قلقها من الوضع، وطلبت من شقيقها أن يبات وأسرته في شقتها، وقد اتحدت زوجته على نفس الرأي، فالطابق الأرضي أسهل في الخروج إلى الشارع لو حدث أي مكروه.
لم تنس إيمان تلك اللحظة وهي تضيف: "مكثت عند أخي حتى أذان المغرب، واتفقنا أن يجهزوا أغراضهم وأوراقهم الرسمية والمهمة، قمت باحتضان ماريا لانشغال والدتها بترتيب الأغراض، بعدها نزلت لشقتي وحملت بعضًا من أغراضهم، على أن يلحقا بي بعد عدة دقائق، حينما ينتهيان من تجهيز أنفسهما للمغادرة".
وقت الفاجعة
ما أن نزلت إيمان ودخلت منزلها، حتى سمعت صوت انفجار كبير هز البرج السكني كله، وارتجت معه شقتها في الطابق الأرضي، لكنها توقعت أن يكون الاستهداف لسيارة أو دراجة نارية أو أي شيء حول البرج.
في هذا الوقت كان إسماعيل الغزالي الذي اتصل في الصباح على شقيقه أحمد يطمئن عليه ويتواعدان لأول صلاة تراويح في مسجد الحي، عائدًا من صلاة المغرب، فسمع صوت الانفجار الذي سمعته شقيقتهما إيمان، فأسرع بخطواته حينما تداول المواطنون خبر "قصف برج 12".
لم يصدق إسماعيل ذلك إلا عندما وصل فوجد الفاجعة.. أعلى البرج الذي يسكن فيه شقيقه مستهدف، صعد بسرعة ليجده ممددًا على الأرض، وقد مزقته صواريخ الاحتلال أشلاءً، فتعرف عليه من ملامح وجهه وقد أخذ يصرخ ويبكي: "هذا أخي أحمد".
ومن ثم ذهب يبحث عن بقية أسرة أحمد، يفتش مع أبناء الحي بين الردم المتطاير، حتى وجدوا الرضيعة "ماريا" ممددة على الأرض على بعد 50 مترًا من مكان الاستهداف، إلا أنهم جميعًا لم يعثروا على أي أثر لزوجته التي ذاب جسدها وتناثرت أشلاؤها.
حلمٌ لم يكتمل
التقى إسماعيل بشقيقته إيمان بعد لحظات من الفاجعة، وهي لا تصدق ما يحدث، ولم تدرِ بما حصل من هول الحدث وذهول المواطنين، فصارحها بقوله: "أخوكِ استشهد"، فانتفضت وهي تقول "مستحيل ذلك، قبل دقائق نزلت من شقتهم"، حتى رأت بعينيها جسده وماريا التي رحلت قبل أن تبدأ حياتها.
تبرق عيني إسماعيل وهو يروي لـ"فلسطين" بمسجد الشيخ زايد، وأمامه جثث شقيقه وابنته وزوجته: "كان أخي سعيدًا بقدوم شهر رمضان، دعاني لتناول طعام الإفطار في أول يوم عنده؛ كوني أسكن في البرج المقابل لسكنه، اتفقنا لأداء صلاة التراويح سويًّا، وكنا سعداء أيضًا بعودة والدتنا من أداء مناسك العمرة"، قطعت دموعه حديثه، مسحها وحاول التحدث مجددًا، لكن عينيه غلبت لسانه وانتهى حديثه.
أما الشهيدة إيمان أصرف، فتعمل في القضاء العسكري بوزارة الداخلية برتبة ملازم أول، كانت تحلم وزوجها منذ زفافهما عام 2015، بامتلاك شقة تريحهما من الإيجار، وتأسيس مستقبل مشرق لطفلتهما "ماريا"، لكن صواريخ الاحتلال قتلت العائلة وقتلت معها أحلامها.
والشهيدة إيمان، كانت صاحبة الرقم الجامعي الأول في جامعة الأمة بغزة "220080001"، والأولى التي افتتحت تخصص العلوم الشرطية للطالبات، وحصلت على المرتبة الأولى على الجامعة، وكانت أمنيتها أن تصبح بروفيسورة في تخصصها يومًا ما.
ذهبت إيمان وزوجها ورضيعتهما "ماريا"، ولم يبقَ ذكرى من أسرة كاملة سوى دعوة "كرت زفافهما" المختلط بدمائهم، سلِم من القصف والاحتراق؛ ليخلّد أناسًا شاهدين على إرهاب المحتل ودمويته.
حضرت مجموعة من زميلات إيمان لوداعها في المسجد، تقدمن يبحثن عن جثمانها، لكنهن لم يجدن إلا بعض أشلائها مغطاة بكفن أبيض، ودعنها بالدموع، بوجع الفراق، لم يصدقن أن صديقتهن "الطيبة وصاحبة الخلق الحسن" رحلت وأصبحت ذكرى.
ولم تكن أسرة الغزالي وحدها التي ذهبت، فالجريمة التي نفذتها طائرات الاحتلال دون سابق إنذار ببناية سكنية ممتلئة بالساكنين، أودت بحياة جاره طلال أبو الجديان وطفلته رغدة، وخلفت عشرات الإصابات من الأطفال والنساء.