حين يرن الهاتف في البيت، ويكون المتحدث على الطرف الآخر أحد الأسرى الفلسطينيين، يسأل عن أحوال الناس والجيران، ويسأل عن صحة أبيه، ويعانق عبر الأثير أمه، ويقبل طفلته، ويهمس لذويه بكلمات الحب. لعمرك فإن هذه قمة الفرح الإنساني.
هذا الإنجاز الذي حققه الأسرى الفلسطينيون في إضراب الكرامة 2، الإضراب السريع والخاطف لا يقدر قيمته إلا من اكتوى بنار الغربة، وذاق ألم الفراق والحرمان من رؤية الأحبة، ولا يفتخر بهذا الإنجاز إلا كل من انتمى لفلسطين الوطن، وعشق ترابها، وهذا ما أدركته يوم جمعة الأسير شرق خان يونس، حين ألقيت كلمة الأسرى، لقد لاحظت انشداد الجماهير، ورغبتها في معرفة تفاصيل حياة الأسرى، وتفاصيل الإضراب والمفاوضات والانتصار الذي حققوه بصبرهم.
قلت للناس: اليوم صار من حق الأسير الفلسطيني أن يتكلم مع أهله ثلاث مرات في الأسبوع، في كل مرة عشرين دقيقة، هذا التواصل الإنساني مع الأهل كان حكراً على السجناء الإسرائيليين، وكان محرماً على الأسرى الفلسطينيين، وضربت لذلك مثلاً، حين أبلغني السجان قبل 28 عاماً، بأنني سأنقل من مستشفى سجن الرملة إلى المستشفى الخارجي "أساف هاروفيه" لإجراء عملية جراحية في العمود الفقري، يومها حارت بي السبل، كيف أتصل بأهلي؟ كيف أبلغهم بنقلي إلى المستشفى، ليأتوا للوقوف إلى جانبي، أو لنقل جثتي إذا مت، يومها لجأت إلى سجين إسرائيلي، وطلبت منه أن يتصل عبر الهاتف بأهلي في خان يونس على رقم هاتف كنت أحفظه، وقد اتصل السجين الإسرائيلي، وجاء الأهل في اليوم التالي إلى المستشفى، والتقيت بهم.
ولتأكيد أهمية التواصل الإنساني، فقد ضحى عضو الكنيست الإسرائيلي العربي المسيحي باسل غطاس، بعضوية الكنيست، وسنتين من السجن الفعلي، عقاباً علىإيصاله هاتفا محمولا إلى الأسير وليد دقة، اليوم سيفرح الأسير باسل غطاس مرتين؛ المرة الأولى لأنه سيتصل بأهله وذويه عبر الهاتف، وسيفرح للمرة الثانية بالنصر الذي حققه الأسرى، وهم ينتزعون الهاتف بإرادتهم، وما يؤكد سلامة فعله الإنساني الذي يقضي من أجله عقوبة سجن فعلي.
وعلينا الاعتراف بأن إضراب الأسرى الأخير ما كان لينجح لولا مسيرات العودة، فهذه هي المرة الأولى التي يضرب فيها الأسرى تحت ظلال مسيرات العودة، وفي كنف المقاومة، لذلك كان النصر سريعاً، نصر حققوا من خلاله رفع أجهزة التشويش، وفرضوا على الإدارة إلغاء العقوبات التي فرضتها إدارة السجون، وأوقفوا العزل الانفرادي، وحالوا دون بقاء الأسيرات المريضات في معبار الرملة، ليبقى الإنجاز الأهم هو التواصل الهاتفي مع الأهل ثلاث مرات أسبوعياً.
وكي أدلل على أهمية التواصل الهاتفي سأقول: جاءت أمي لزيارتي في سجن عسقلان بعد الإضراب الشهير سنة 1992، وكانت الزيارة ممنوعة لشهر تقريباً، يومها حدثتني أمي ببساطة وبراءة عن بيت العزاء، وعن الحشود التي شاركت في تشييع الجنازة، وعن منع التجول بعد يوم من تشييع الجنازة، وعن الطعام الذي أعدوه للمواسين، كانت أمي تسرد الأحداث عن الموت ببراءة وعفوية، وحين سألتها: ومن هو الميت يا أمي؟ من هو الشخص الذي شيعوه؟
قالت أمي: إنه أبوك الله يرحمه! لقد توفي! وأضافت وهي تستدرك الأمر: ألم تكن تعلم من قبل؟ كل الناس تعرف أن أباك قد توفي قبل أسابيع، فكيف لا تعرف أنت حتى يومنا هذا!؟
الأسرى الذين انتصروا في إضراب الكرامة 2 هم بحاجة إلى كرامة رقم 3، لا عن طريق الإضراب عن الطعام، وإنما عن طريق صفقة تبادل أسرى؛ تلم شمل الأحبة، وترفع رأس المقاومة.