السفر قيمة فيها فوائد ومنافع عديدة ومتنوعة، وكما يقول الإمام الشافعي في فوائد السفر: تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر؛ ففي الأسفار خمس فوائد: تفريج هم واكتساب معيـــشة وعلـــم وآداب وصحـــــبة ماجد، وصاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا وسعة أفق وعقل، وفي السفر تلبية لرغبات فطرية لدى الإنسان، من حب المخالطة والمرح والمعرفة، وتعرف إلى ثقافات وطريقة حياة مختلفة، ورؤية الأشياء من زوايا متعددة، تمنح المسافر القدرة على التفكير والتأمل بعمق أكبر، وقد ثبت من التجارب أن مستوى عطاء الإنسان بعد الرحلات يرتفع ارتفاعًا ملحوظًا، ويلتهب الحماس لتقديم أفضل ما لديه، والنشاطات والرحلات الهادفة تفتح آفاق ذهنه على الأفكار الابتكارية والإبداعية.
وإن السفر والرحلات المتنوعة من الأمور المحببة إلى غالبية الناس، ففيها كما يقولون أُنسٌ بصديق، وتفريج ضيق، وكسب مهارات وخبرات ومعارف.
لكن من جهة أخرى، ارتبطت اليوم فكرة السفر بصعوبة العيش وضيقه في عالمنا العربي، ليصبح هروبًا من واقع مرير إلى عالم مجهول، مجرد انتقال، ما يجعلني أرى الفكرة مختلفة ودوافعها بعيدة عن الهدف النافع كما أسلفنا في طلب العلى أو صحبة ماجدٍ أو اكتساب معرفة أو مهارة جديدة، فكرة السفر اليوم يشوبها الغموض والألم، مدفوعة من شخص منهزم أرهقته صعوبة الحياة، هذه حقائق، سواء قبلنا بها أم لا، فذلك لا ينكر وجودها، وحقيقة وقوعها في مجتمعنا العربي والفلسطيني تحديدًا.
السفر معاناة وألم وغربة، السفر بين طياته كثير من العقبات والمحطات البائسة، لحظات بل ساعات تخزن في الوجدان لتبقى جرحًا غائرًا لا يشفى أبدًا، تلك حقيقة الوجه الآخر للأسفار.
الأمانة تقتضي عرض وجهَي السفر دون تحيز أو دفعك إلى السفر أو تركه، لكن هو عرض واقع حقيقي لمن عاش في غربة سنين طويلة، ففي الأسفار أيضًا تنكر إخوان وفقد أحبة، وتشتيت مالٍ، وعوائق كثر، وضياع دين وقيم، السفر قطعة عذاب حقيقية.
إذن ما الخيار والقرار؟، هل نسافر أم نبقى قابعين على حالنا مستسلمين؟، أنا أرى أن السفر خطوة تحتاج لحسبة ومقارنة عميقتين واختيار المكان الأنسب لسفرنا وفق قدراتنا ومؤهلاتنا وسوق العمل للبلد المَنوي السفر إليه، وماذا سنعمل هناك، ومصيرنا كيف سيكون، ثم المفاضلة بين البقاء والسفر، ثم استخر ربك بعدما تستشير من حولك من أحباب وناصحين.
الحقيقة أنا ضد السفر العشوائي غير المدروس، "سافر، وليكن الطوفان، ولا يوجد بلد أسوأ من غزة"، هذا كلام غير واقعي، واسألوا من سافر واغترب عن غزة عن طول الليالي هناك، سافر إن كان لك فرصة ومجال عمل مؤكد، سافر وجيبك عامر ببعض النقود، سافر لتكتسب خبرة ومعرفة أو لبناء مستقبل، وإياك أن تسافر لتقتل ما تبقى من زهرة عمر وبصيص أمل، إياك أن تسافر هروبًا من واقع إلى واقع أسوأ.