تمنيت لو كانت القدس أو الضفة الغربية هما الصداع المزمن، ومرض السرطان الذي ينهش روح السياسة الإسرائيلية، ولكنها غزة، التي لا تغيب عن وسائل الإعلام الإسرائيلية، ولا تصمت عنها ألسنة القادة العسكريين والسياسيين، وكأن النقيض الوحيد للمشروع الصهيوني في هذه المرحلة هو غزة الصغيرة المحاصرة المعاقبة، وهذا بحد ذاته يفرض سؤالاً ملحاً على كل الفلسطينيين: لماذا تحضر غزة الصغيرة الجائعة وتغيب الضفة الغربية الكبيرة الهاجعة؟ ما هي مقومات غزة حتى تسكن رأس كل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وجعاً، يفتشون عن علاج له، في حين يغيب عن مكتب منسق شؤون الحكومة الإسرائيلية أي انشغال صغير بشأن الضفة الغربية؟
فماذا قال الإسرائيليون عن غزة في غضون 24 ساعة؟
أجمع كل المتحدثين والمعلقين من سياسيين وكتاب ومفكرين على أن الردع الإسرائيلي تجاه غزة قد انهار، وأن غزة تجرأت على إسرائيل جيشاً ومؤسسة وشعباً وأجهزة أمنية، وأن إسرائيل كلها صارت رهينة في يد رجال غزة، التي لا تغيب صواريخها إلا لتفسح الطريق لمسيرات العودة، ولا تبتعد مسيرات العودة إلا لتتقدم البالونات الحارقة والإرباك الليلي!.
فكيف الخلاص من غزة وأوجاعها وفق رأي العسكريين والسياسيين الإسرائيليين؟
يقول ليبرمان، وزير الحرب السابق: يجب تنفيذ عمليات اغتيال مركزة، وقتل قادة المقاومة كلهم، بما في ذلك هنية والسنوار، ويحذر من الدخول فعليًا إلى قطاع غزة، مع ضرورة تدمير الصواريخ بضربة دقيقة، دون التورط بمعالجة كل قضايا غزة الحياتية.
يقول نفتالي بينت وزير التعليم الحالي ورئيس كتلة اليمين الجديد: الانتصار على غزة يكون بتدمير الترسانة الصاروخية للمقاومة عن طريق الجو وليس الدخول البري، وكذلك يجب ملاحقة واغتيال قادة وعناصر المقاومة وتدمير منازلهم، دون التورط في حرب برية!!.
يقول آفي ديختر رئيس جهاز الشاباك السابق: الضربة الجوية تحقق النصر في الأفلام السينمائية، بينما في الحرب الحقيقية قد يحدث ما لم يكن في الحسبان، ويغير مسار الحرب كلها، لذلك يؤيد آفي ديختر الإعداد لعملية عسكرية طويلة الأمد، تشبه عملية السور الواقي التي نفذها الإسرائيليون في الضفة الغربية 2002، ويؤكد أنهم لا يواجهون في غزة مجموعات من المقاتلين، وإنا يواجهون عشرات آلاف المقاتلين، أكثر من أربعين ألف مقاتل مدرب!!.
ولكن جابي اشكينازي رئيس الأركان السابق يعارض عملية اقتحام تشبه عملية السور الواقي، ويرى ضرورة استعادة قوة الردع من خلال دفع الثمن، وذلك عبر اغتيال عناصر المقاومة وقادتها، ويوصي بوضع خطة تكبد المقاومة خسائر كبيرة من بداية العملية.
بينما يقول إسرائيل زيف، قائد فرقة غزة السابق: إن سياسة الاغتيالات غير مجدية، لقد ألقينا عليهم الكثير من القنابل دون جدوى، لقد دمرنا لهم أهدافا كثيرة، ولكنهم لم يرتدعوا!!!.
نلاحظ أن القاسم المشترك بين معظم تصريحات الإسرائيليين هو الخوف من دخول أرض غزة في أي معركة قادمة، وهم بذلك يتجاهلون أهم عقيدة للجيش الإسرائيلي، والتي تقوم على نقل المعركة إلى أرض العدو كشرط لتحقيق النصر، كما تجاهل كل المتحدثين رد المقاومة، وقدرتها على قصف تل أبيب وما بعد تل أبيب، وهذه القدرة للمقاومة تعارض العقيدة الإسرائيلية التي حرصت على عزل الجبهة الداخلية عن الحرب، ولم يلتفت القادة الإسرائيليون إلى مفاجآت الحرب، والجهل الإسرائيلي بالمعلومة عن حجم الإعداد والقوة لدى المقاومة.
وسط هذا التناقض والتخبط في تصريحات القادة الإسرائيليين العسكريين والسياسيين، خرج اليوم صوت موشي كحلون، وزير المالية، ورئيس كتلة كولانو الانتخابية، الذي قال لريشت كان: غزة وجع الرأس المزمن، ولا حل لنا مع غزة إلا بالتخلي عنها، وتركها لوحدها، وإنهاء الاحتلال، وأضاف: ابتعدوا عن غزة، وفارقوا هذا الشر الذي يلاحقكم من غزة، اتركوا غزة تقيم دولتها، وتقيم الميناء والمطار، وتقيم جيشها، اجعلوها تخف على مصالحها ومنشآتها!.