من يتابع قرارات وتصريحات القادة الأمريكان، هذه القيادة المتطرفة والمشبعة بالحقد والعنصرية، ليس فقط على أبناء البشرتين الحمراء والسمراء من الشعوب الأخرى، وفي المقدمة منهم أبناء الشعوب العربية والإسلامية، ومواطنو أمريكا من المهاجرين ومن أصول أمريكية لاتينية؛ يدرك تمامًا مدى عنصرية هذه القيادة وتطرفها، وأنها تدفع المنطقة والعالم نحو حالة من عدم الاستقرار، وحروب مدمرة، قد يشكل اندلاعها خطرًا على مستقبل البشرية جمعاء.
والسياسات والقرارات العنصرية والمتطرفة للرئيس الأمريكي وأركان حكومته ليست فقط شكلًا من أشكال البلطجة والخروج السافر على قوانين الشرعية الدولية وقراراتها، بل هي عدوان سافر ووقح، وتعدٍّ على حقوق الشعوب وأراضيها وسيادتها وكرامتها، ونحن نشبه حالة القيادة الأمريكية بالنمر الجريح، إذ تضرب في كل الاتجاهات يمينًا ويسارًا، انطلاقًا من جشع ونهم لرئيس أمريكي قادم من أعتى الكارتيلات الريعية الاحتكارية، للمال والمال فقط، إذ يتعاطى مع قضايا الشعوب وحقوقها من منظور رقمي ومنظور المال و"البزنس" والصفقات والرشى، وفي سبيل جشعه وطمعه، ونظرته الاستعلائية والفوقية للشعوب الأخرى وجدنا أنه افتعل المشاكل والحروب الاقتصادية والتجارية مع العديد من الدول، وتدخل أيضًا في شؤون دول أخرى، وبلغت ذروة وقاحته وعنجهيته أن يتصرف بأراضي الآخرين، كأنها أراض تابعة أو ملحقة بدولته، يوزعها كيفما يشاء، وتبلغ الوقاحة ذروتها في تصريح لوزير الخارجية الأمريكية بومبيو، في أثناء زيارته إلى كيان الاحتلال الجمعة الماضية، قال فيه: "إن الرب ربما بعث ترامب لكي ينقذ اليهود من إيران"، تصريح في قمة العنصرية والتطرف، ويستند إلى فكر صهيوني تلمودي إقصائي استعلائي، وقد سبق ذلك بيوم من الزيارة تغريدة على "تويتر" لرئيسه المتصهين ترامب: "إنه حان الوقت لكي تعترف أمريكا بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري، لكون له أهمية أمنية وإستراتيجية لدولة (إسرائيل)، ولضمان الأمن والاستقرار في المنطقة والإقليم"، وهذه العطايا والهدايا التي يوزعها المتصهين ترامب على كيان الاحتلال ليست من جيبه ولا أرضه ولا ماله الخاص، سبقها الإعلان الأمريكي لنقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال، الذي دشن في احتفال رسمي بمقر سفارة بلاده المنقولة إلى القدس في أيار من العام الماضي.
هذا القرار الأمريكي بحق الجولان قد يتبعه قرار أمريكي آخر الاعتراف بالسيطرة الإسرائيلية على مزارع شبعا اللبنانية، هذه القرارات لا تنشئ حقوقًا ولا يترتب عليها التزامات، لكنها خروج سافر ووقح على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومجلس الأمن الدولي، التي أكدت جميعها أن الجولان أرض سورية محتلة، وكل الإجراءات الإسرائيلية بحقها باطلة: قراري مجلس الأمن الدولي (242) و(338)، وقرار مجلس الأمن الدولي في 17 كانون الأول 1981م، الذي صدر بالإجماع برفض الضم الإسرائيلي للجولان.
الجولان ينطبق عليها أحكام القانون الدولي الإنساني لأنظمة لاهاي لعام 1907م، واتفاقية جنيف لعام 1949م بحماية السكان المدنيين وقت الحرب.
قرار البلطجة الأمريكي جاء ليقول بسيادة شرعية الغاب في العلاقات الدولية بدل الشرعية القانونية والدولية، ومع كل هذه القرارات المتعجرفة والوقحة لا أعتقد أن (إسرائيل) قادرة على تحويل تلك القرارات الأمريكية إلى قرارات ذات شأن وقيمة تستفيد منها، ليس بسبب وجود توازنات دولية ترفض هذه القرارات، ولكون (إسرائيل) لا تمتلك القوة الكافية لطرد وتهجير السكان الفلسطينيين والعرب السوريين من القدس والضفة الغربية والجولان، الذين سيقامون طردهم وترحيلهم بكل السبل والوسائل.
نحن ندرك تمامًا أن المشروع الأمريكي يواجه أزمات ومشاكل واستعصاء وتراجعًا وانكفاء في العالم والإقليم والمنطقة، ولذلك نرى التخبط والارتجال والتسرع من الإدارة الأمريكية، فيما يخص القرارات في سياستها الخارجية وعلاقاتها بالدول، القائمة فقط على "الاستحلاب" المالي ودفع الأثمان، والسعي إلى السيطرة على الشعوب والبلدان الأخرى من أجل نهب خيراتها وثرواتها، وقلب أنظمة حكم الدول، التي تخرج عن طوع أمريكا وتتصدى لسياساتها العدوانية، وترفض هيمنتها والتدخل في شؤونها الداخلية، ولعل الجميع شاهد تجليات تلك السياسة في أكثر من بلد ودولة، إذ "استحلب" ترامب من دول الخليجي العربي، وفي مقدمتها السعودية وقطر والإمارات العربية، مئات مليارات الدولارات، مهددًا إياها بأنها عليها الدفع مقابل الحماية والوجود العسكري الأمريكي، وإلا فإنه سيتركها فريسة لإيران لكي تبتلعها، على حد زعمه.
في حين صعد من حروبه التجارية والاقتصادية على أكثر من بلد: حرب تجارية على الصين، وفرض ضرائب جمركية على بضائعها المصدرة لأمريكا، وعقوبات اقتصادية وتجارية على روسيا وتركيا، في حين تنصل من الاتفاق الدولي مع طهران بشأن برنامجها النووي، وفرض عقوبات اقتصادية وتجارية قاسية عليها، من أجل تهديد أمنها واستقرارها وخنقها اقتصاديًّا، لكي تستجيب لشروط وإملاءات واشنطن، وعمل على شيطنة طهران، وتصويرها "بعبعًا" وعدوًّا يريد أن "يبتلع" الأمة العربية ويهدد أمنها واستقرارها وعروشها وأمن كل المنطقة، وتصوير إيران مصدرَ الشرور والإرهاب.
ولم تسلم فنزويلا من بلطجة ترامب، إذ تدخل في شؤونها الداخلية من أجل قلب نظام حكمها الشرعي، والإيتاء بحكم "دمية" ينفذ شروطه وإملاءاته، ويمكنه من السيطرة على ثروات فنزويلا وخيراتها من نفط وغاز وذهب ومعادن ثمينة، ولكن التفاف الشعب والجيش الفنزويلي حول قيادته، والرفض الروسي والصيني لها لجما ومنعا اندفاعات تهور ترامب، وانزلاقه نحو غزو فنزويلا، وقلب نظام الحكم فيها.
القيادة السورية على لسان مندوبها في الأمم المتحدة بشار الجعفري، وفيصل المقداد نائب وزير خارجيتها صرحا بعد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة برفض هذا القرار الأمريكي غير الشرعي والقانوني، وأن القرار الأمريكي لا قيمة له، وأنه لن يبدل من واقع الجولان شيئًا أنها أرض سورية محتلة، ومن حق سوريا التفكير في استعادتها بكل الطرق، ومن ذلك الكفاح المسلح.
المأساة هنا أن يرتفع الرفض الأوروبي لهذه القرارات مقابل سكوت عربي مريب، كما حصل في قضية نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لكيان الاحتلال.
القرارات الأمريكية المتهورة ستقود المنطقة إلى المزيد من عدم الاستقرار، وستدفع تجاه تعجيل وتسبيق الخيار العسكري على أي خيارات أخرى، وأنا واثق بأن أمريكا لن تنجح خططها ومخططاتها في المنطقة، وأن المشروع الأمريكي ذاهب نحو الاندحار.