كنت أحسبهم أعضاء فرقة موسيقية، حين سألت النائب الشيخ يونس الأسطل: من أولئك المهذبون الذين يجلسون في واجهة قاعة رشاد الشوا، ويلبسون ربطات عنق منسقة؟
قال: أولئك مجموعة من سجناء الحق العام، والبعض منهم صدر بحقه حكم بالإعدام!! هؤلاء هم السجناء الذين نحتفي بهم هذا اليوم، تكريماً لجهدهم في نسخ المصحف بالرسم العثماني.
وأضاف الشيخ يونس الأسطل: أترى ذاك الصحفي المهندم، والذي يقوم بتصوير الاحتفال داخل قاعة رشاد الشوا، إنه سجين، سأناديه كي تتعرف عليه، وتستمع إليه.
قال الصحفي: اسمي أسامة الغول، أنا أعرفك يا دكتور، وقد نظمت لك أكثر من لقاء عبر الفضائيات، ولكنني أخطأت، وصدر بحقي حكم بالإعدام، ومع ذلك لم أفقد الأمل، ورجائي بالله لا ينقطع، وكما ترى، فعلاقتي الطيبة مع السجناء والسجانين، تؤهلني للظهور بملابسي المدنية، وأضع ربطة العنق، وأقوم بتصوير الاحتفال!!
كدت لا أصدق أن هؤلاء سجناء، ولكن إصرار حركة حماس على شطب لفظة (السجون) واعتماد لفظة مراكز الإصلاح والتأهيل، جعل سلوك السجناء منسجماً مع التسمية!.
لقد عرض السجناء على خشبة المسرح تمثيلية تحاكي واقعهم، وبحضور النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي الدكتور أحمد بحر، عرض السجناء باكورة أعمالهم "مصحف الإصلاح" الذي نسخوه بأيديهم المقيدة في غرف السجن، وهم يقولون بتواضع:
"وما كان لنا على قلة علمنا أن نخوض هذا البحر العباب بلا مرشدٍ، أو دليل كفءٍ، يأخذ أيدينا إن نحن أخطأنا، أو حارت خطانا، فأنعم الله علينا بخير مرشدٍ النائب الدكتور عبد الرحمن الجمل، فمن خلاله احتمينا بكنف العلم والفقه".
لقد دق قلبي حين سمعت أن هؤلاء النزلاء المدنيين في مراكز الإصلاح والتأهيل في غزة، يعقدون جلسات ثقافية وفكرية، ويأتيهم رجال إرشاد ووعظ ليأخذوا بأيديهم، بل توفر حركة حماس لهؤلاء السجناء كل ما يلزمهم لإصدار مجلتهم الثقافية وإبداعاتهم الفنية داخل (السجن) مراكز الإصلاح والتأهيل، وبخط أيديهم، وهذا الذي أثار شجوني، واقتلعني من قاعة رشاد الشوا، وحملني بعيداً، هنالك إلى سجن نفحة وسجن عسقلان، حيث دأب السجناء العسكريون الفلسطينيون على تحدي الواقع، وكسر القيود، والقيام بهذه الأعمال الإبداعية خلف الأسوار، ومن هؤلاء الأسرى الأخ توفيق أبو نعيم، الذي تحرر في صفقة وفاء الأحرار، ويشغل حالياً وظيفة وكيل وزارة الداخلية، والذي شدني بكلماته الانفعالية، حين قال أثناء إلقاء كلمته:
هؤلاء أبناء شعبنا، لن نتخلى عنهم، لن نتركهم فريسة للهواجس، لن نكون لهم إلا خير ناصر ومعين، لقد حسبت في البداية أن الأخ توفيق أبو نعيم يتحدث عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، فإذا بالرجل يتحدث عن النزلاء المدنيين في مراكز الإصلاح والتأهيل، حين قال: إنها مسئوليتنا الدينية والأخلاقية تجاه أبناء شعبنا، وأضاف:
اتصل بي يوم أمس مدير سجن دير البلح، يستأذن في إخراج السجناء إلى الساحة كي يشاهدوا مباراة كرة القدم بين مصر والكاميرون، ورغم عدم عشقي لكرة القدم، ورغم ازدحام الوقت، آثرت أن أكون وسط السجناء المدنيين، وأن أشاركهم فرحتهم في مشاهدة المباراة.
انتهى الاحتفال في قاعة رشاد الشوا، ولم ينتهِ الحديث عن التنظيم والإعداد الجيد، ولم ينتهِ حديثي مع نفسي، وأنا أقول: هكذا يكون الإحساس بالإنسان، هكذا يصير الارتقاء بالنفس البشرية، والصعود بها من حضيض الجريمة إلى فيافي الأحلام، والأمل بحياة أفضل.