يسرقون أراضي الفلسطينيين بقوة السلاح ويقيمون مستوطنات غير شرعية مكانها ولا يأبهون باعتراضات العالم، وإن سألتهم لماذا أقدموا على هذه الانتهاكات الجسيمة في الضفة الغربية؟ ستسمع إجابة جاهزة: "لأنَّ الربَّ أراد ذلك".
لكنها ليست مشيئة "الرب" كما يفهمها عموم البشر، فما يزعمونه ضمناً أنّ لديهم تفويضاً من "الرب" لاقتراف كل هذه الانتهاكات، ولا ينبغي لأحد أن يُسائلهم أو أن يُحاسبهم بالتالي، فشرائع البشر والقانون الدولي والمبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية لا ينبغي أن تسري عليهم إن تعارضت مقتضياتها مع المهمة التاريخية الربانية التي يقومون بها.
ليست هذه النبرة جديدة على أي حال، فقد تردّدت مقولة "الرب أراد ذلك" في محطات عدة من قبل، ومن المألوف أن تأتي مادة للتعبئة أو ذريعة للتجاوزات، طالما أنّ أصحابها يمارسون الاستعلاء على البشر ويمنحون أنفسهم حق التحدث باسم "الرب".
كانت مقولة Deus lo vult أو "الرب أراد ذلك" شعاراً للحملة الصليبية الأولى منذ أن أطلقها البابا أوربان الثاني في نوفمبر/تشرين الثاني 1095 في مجمع كليرمون الكنسي، وباسمها تم اقتراف الفظائع بحق شعوب وطوائف متعددة في الطريق الطويلة إلى القدس ثم في داخلها أيضاً عبر مذبحة جماعية مروِّعة بعد اقتحامها في يوليو/ تموز 1099.
امتدّ هذا التقليد اللفظي المتغطرس إلى العصر الحديث، فتم التذرّع بالصلة الخاصة بـ"الرب" خلال التعبئة لبعض حملات الاستعمار التي غزت بلدان العالم ومارست الهيمنة على شعوب الأرض، واستمرّ ذلك من بعد بأشكال متعددة.
وقبل أن تعقد المنظمة الصهيونية مؤتمرها العالمي الأول سنة 1897 كتب ويليام هنري هشلر William Henry Hechler قس السفارة البريطانية في فيينا مقالة مطولة حضّ فيها مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل ورفاقه على استيطان فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها. تم نشر المقالة في 11 يونيو/حزيران 1897 ضمن العدد الثاني من صحيفة "دي فيلت" Die Welt التي أصدرها هرتزل لتكون ناطقة باسم المنظمة الصهيونية، وختمها هيشلر بعبارة "فليكن ذلك شعاركم: الرب يريد ذلك!".
كان هرتزل ورفاقه الصهاينة بحاجة إلى هذا الدعم من هيشلر وهم يواجهون اعتراضات شديدة من المجتمعات اليهودية المحلية ومؤسساتها التمثيلية وقياداتها الدينية التي وقفت بقوة ضد المؤتمر الصهيوني الأول، حتى اضطر الصهاينة إلى عقد مؤتمرهم في مدينة بازل السويسرية بعيداً عن نفوذ الطوائف اليهودية. ويُعَدّ هيشلر من رموز "الصهيونية المسيحية" التي تحمل رؤية خاصة للتاريخ وتستعجل نهاية العالم، وما زال هذا التيار حاضراً في الولايات المتحدة ويمثل أتباعه كتلة داعمة بقوة لدونالد ترامب.
انتعشت عبارة "الرب يريد ذلك" في دعاية الاستيطان المسلّح في فلسطين ومن يدعمها من الأوساط المتعصبة في الولايات المتحدة. الجديد في الأمر أنّ العالم سمع ما يشبه هذه المقولة من الإدارة الأمريكية ذاتها، وهذه المرة على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز التي قالت لشبكة "سي بي إن" CBN في 30 يناير/كانون الثاني 2019 إنّ "الربّ أراد اختيار دونالد ترامب لهذا المنصب".
نحن هنا إزاء أُحجِية، فهل اختصّ "الرب" ترامب بهذا الاختيار دون غيره من زعماء العالم أو حتى دون غيره من رؤساء أمريكا الآخرين؟ وماذا عن بارك أوباما مثلاً؟ يتجاوز المغزى سذاجة العبارة الظاهرة إلى إيحاءات تلبّستها عبر التاريخ، فهو إيحاء يفهمه جمهور "سي بي إن" جيداً، فهي "شبكة البث المسيحية" التي أسّسها بات روبرتسون المعروف بآرائه المتعصبة ونظرته الخاصة إلى التاريخ ونهاية العالم، وهو من أبرز رموز "الصهيونية المسيحية" في أمريكا.
لم تستعمل الناطقة باسم البيت الأبيض في تصريحها هذا لغة دولة وإنما تعبيراً خاصة بأوساط تحمل رؤية خاصة للعالم والتاريخ. لكنّ التصريح لا يبدو زلّة لسان، خاصة وأنّ ترامب الذي "أراد الرب أن يكون رئيساً"، كما قالت الناطقة باسمه، هو ذاته الذي لا يكترث ببلدان الجوار، ولا يأبه بالعالم بأسره، ويستعمل شعار "أمريكا أولاً" ذريعةً للتنصّل من اتفاقات دولية مثل اتفاقية باريس للمناخ، كما أنه الذي يتبنّى مواقف منحازة بصفة غير مسبوقة لحكومة الاحتلال والاستيطان التي يقودها بنيامين نتنياهو.
يحظى ترامب بمديح خاص من أوساط إسرائيلية، حتى أنّ المتحدثين الذين تعاقبوا على منصّة الاحتفال بافتتاح السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، يوم 14 مايو/أيار 2018 أخذوا يذكرون ترامب في سياق واحد مع الأنبياء. وبلغت الحماسة ببعضهم أن أصدروا عملة تذكارية يظهر فيها "قورش الكبير" 559 – 530 ق. م. مع ترامب الأمريكي (1946 - .. ) كاثنين من أكبر عظماء التاريخ.
تشي عبارات كهذه بنزعة استعلاء وغطرسة، وربما تعبِّر عن "تأليه سياسي"، فتمنح سياسات البشر المتغطرسين صفة الاختيارات الربانية التي لا ينبغي نقدها أو الاعتراض عليها.
لعلّها العبارة المثالية لدونالد ترامب، الذي لا يبدو متواضعاً أساساً عندما ينسحب من اتفاقات دولية ويقرِّر بناء جدار مع المكسيك ويمنع مواطني دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة ويستعمل عبارات قاسية مع الصحافيين ويضرب عرض الحائط باللياقة الدبلوماسية في التعامل مع الدول الأخرى.
إن كان على العالم أن يضع يده على قلبه منذ أن صعد رئيس بهذه المواصفات إلى قيادة الأمّة الأولى؛ فإنّ تصريح سارة ساندرز يعزِّز الهواجس من توجّهات البيت الأبيض إن كان محكوماً حقاً بمثل هذه العقلية المُغامِرة والمتعالية على العالم، التي قد تمنح مشروعية لأي سلوك مارق طالما أمكن تسويقه بمقولة أنّ "الرب أراد ذلك".