فلسطين أون لاين

تاريخنا

عقبة بن نافع.. وتهمة التخطيط للاستقلال في أفريقيا

لم تسلم سيرة القائد المسلم عقبة بن نافع الفهري من التشويه، بسبب أهواءِ رواةٍ كذابين، اختلقوا الروايات لتشويق السامعين، أو بسبب مستشرقين حاقدين، تعمدوا تشويه الصورة المشرقة لقادة المسلمين، الذين هزموا أجدادهم الأولين، أو بسبب مؤلفين عربٍ مُنهزمين، رددوا كالببغاوات تحليلات أساتذتهم المغرضين، ولم يقدِّر هؤلاء الأقزام، أنَّ عقبة من الصحابة الكرام، إذ ولد قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعام، وشارك مع عمرو بن العاص في فتوح الشام ومصر، وأنه أول وأصغر قائد ميداني يجاهد في شمال أفريقيا، فقد شارك في فتح برقة، وتولى قيادة الجيش الذي فتح غدامس، وودان، وجرمة، وفزان، وكوار، وزويلة، وقفصة، وقسطيلة، وأنه صاحب الدعاء المستجاب، والكرامات المشهودة، ووالي شمال أفريقيا والمغرب، وباني مدينة القيروان، وصاحب أول فتح للمغربين الأوسط والأقصى، والفارس الرباني المقدام، الذي وصل إلى المحيط الأطلسي، وخاضه بحصانه، ورفع رأسه إلى السماء صادحاً بدعاء: "اللهم إنك تعلم أني قد بلغتُ المجهود، ولو أني أعلم أن خلف هذا البحر بلاداً لخضته، ومضيتُ مجاهداً في سبيلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت"، وأنه الشهيد المُقبل على الله، العاشق للشهادة في سبيل الله، إذ يُروى أنه جمع أبناءه قبيل انطلاقه لفتح المغرب، وقال لهم مودعاً: "إني قد بعتُ نفسي من الله تعالى، وعزمتُ على من كفر به حتى أُقتلَ فيه، وأُلحقَ به، ولستُ أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله".

فقد اتهم المستشرق هنري تراس عقبة بأنه فكّر في الاستقلال بولاية أفريقيا عن دولة الخلافة، ليقيم فيها مملكة يتوارثها أبناؤه من بعده، وأنّ تفكيره هذا هو الذي جعل الخليفة معاوية بن أبي سفيان يأمر بعزله، ويولي أبا المهاجر دينار.

وبالرغم من تفاهة الاتهام، إلا أننا مضطرون للرد عليه وتفنيده، لأن في الكتَّاب العرب مهزومون مهزوزون، معجبون مبهورون، بكل ما يصدر عن غير المسلمين، حتى لو كان ضد دينهم وتاريخهم وأجدادهم الرائعين، وقد وجدتهم يرددون اتهامه وكأنه مسلمات. وألخص ردي على هنري بسبع نقاط:

1- لم يعتمد هنري في اتهامه على أي رواية تاريخية، وإنما هو تفسيرٌ منه للإقالة، لم يراعِ فيه عقلية عقبة ونفسيته التي تُظهر الروايات التاريخية أنه كان زاهداً عابداً مجاهداً أكبر همِّه نشر الإسلام، وليس الاستقلال بمملكة يتولاها أولاده من بعده. وحسب المنهج العلمي التاريخي يخطئ المفسِّر للأحداث التاريخية إذا لم يراعِ في تفسيره لتصرفات الأشخاص عقلياتهم ونفوسهم.

2- أسقط هنري أمراض نفسه وعصره على تصرفات عقبة، فتصور أنّه كالمسئولين الغربيين المعاصرين لا يفكرون إلا في ذواتهم، ولا يطمحون إلا في مجد الدنيا وعزها، ولا يراودهم إذا ابتعدوا عن رقابة أولي الأمر إلا مصالحهم الشخصية، وغاب عنه بسبب غياب الإيمان عن قلبه، أنّ كل ما يرجوه عقبة هو ثواب الله العظيم في الآخرة.

3- أهمل هنري في تفسيره المغرض روايات المصادر المغربية، وعلى رأسها رواية ابن عذاري، في كتابه البيان المُغرِب في أخبار الأندلس والمغرب، التي تبين بجلاء سبب عزل معاوية لعقبة، وأنه اقتراحٌ قُدِّمَ إليه من قِبَل والي مصر مسلمة بن مخلد، بعزله وتولية أبي المهاجر دينار، وكانت أفريقيا تُدار من قبل والي مصر، وأنّ رد ّ معاوية على مسلمة تضمَّن إقراراً بفضله، إذ كتب إليه يقول:" لو أقررت عقبة فإنّ له جزالة وفضلاً"، فرد عليه مسلمة بكتاب جاء فيه: "إن أبا المهاجر صبر علينا في غير ولاية ولا كبير نيل، فنحبُّ أن نكافئه"، ولا يوجد في الرواية ما يشير إلى مخاوف معاوية من استقلال عقبة، بل يتضح منها أنّ معاوية يرغب في إبقاء عقبة، وأنه مقرٌّ بفضله، لكنه تجاوب مع مقترح مسلمة باعتبار أنّ تعيين والي أفريقيا من صلاحياته، إذ كانت أفريقيا وقتها تابعة إدارياً لمصر، إضافة إلى قناعته بفضل أبي المهاجر، وكفاءته وأنه يستحق المكافأة والتقدير.

4- تؤكد رواية ابن عذاري أن عقبة توجه إلى دمشق وعاتب معاوية، على عزله له، وأنّ معاوية اعتذر إليه، ووعد بإعادته قائلاً: "قد عرفتَ مكان مسلمة بن مخلد من الإمام عثمان، وبذله مهجته صابراً محتسباً.. وأنا أرددك إلى عملك"، وقد توفي معاوية قبل أن يفي لعقبة، لكنّ يزيد بن معاوية وفى بوعد أبيه، وعزل أبا المهاجر، وأعاد عقبة، وقد نفّذ يزيد فيما يبدو وصية أبيه له بإعادة عقبة إلى أفريقيا. ولا شك أنّ وعد معاوية لعقبة بإعادته إلى أفريقيا، وتنفيذ يزيد لهذا الوعد دليلٌ قاطع على أنّ اتهام هنري وأمثاله مجرد فرية مغرضة، إذ لا يمكن أن يعده معاوية بالعودة، ويعيده يزيد والياً، وهما يشكان في نيته بالاستقلال.

5- كانت الدولة الإسلامية في خلافة معاوية قوية لا يُتوقع أن يجرؤ أحدٌ من الولاة على التفكير بالاستقلال عنها.

6- لم تحدث أي حالة استقلال عن الدولة الإسلامية من قبل حتى نقبلَ أن يُقدمَ عقبة على التفكير بالاستقلال عنها.

7- سيرة عقبة الإيمانية الجهادية الدعوية المشار إليها آنفاً تدل على أنّ ما يشغل تفكيره ليس الدنيا وشهواتها وإنما الآخرة وما يقرِّب إليها، وقد أكد على ذلك بإقباله على الشهادة، يوم فوجئ وهو في خمسة آلاف من جنوده، بمحاصرة نحو خمسين ألفاً من البربر لهم في تهودة، فلم يفر، ولم يستسلم، وإنما كسر غمد سيفه، وفعل جنوده مثله، وقاتلوا حتى استشهد عقبة، ومعظم جنده.

رحم الله عقبة بن نافع رحمة واسعة، فقد كان من خيرة الرجال إيماناً والتزاماً وعبادة ودعوة وسيرة وأخلاقاً وجهاداً وفتحاً ونشراً لدين الله.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].