منذ ما تسمى ذكرى خراب الهيكل في أواخر تموز من العام الماضي ومن ثم رأس السنة العبرية وعيد العرش اليهودي وما تسمى أعياد الأنوار والغفران ونزول التوراة من مسلسل غير منتهٍ من تلك الأعياد... كان الصراع يحتدم على هوية المكان للقسم الشرقي من المسجد الأقصى، باب الرحمة المغلق منذ عام 2003، بحجة وجود لجنة التراث الإسلامي المتماهية مع حركة حماس على حد زعمهم، وعملية الإغلاق تجدد تلقائيا، وفي30/8/ 2017، كان هناك قرار محكمة إسرائيلية باستمرار عملية الإغلاق.. صراع أراد الاحتلال منه فرض التقسيم المكاني بالسيطرة على باب الرحمة ومقبرة باب الرحمة التي استولى على قسم منها وحوله إلى مسارات تلمودية وحدائق توراتية، والاقتحامات التي تكثفت في العام الماضي ووصلت إلى أكثر من 30 ألف عملية اقتحام بمشاركة وزراء وأعضاء كنيست وقادة أمنيين وقادة شرطة، والإبعادات عن الأقصى والبلدة القديمة التي وصلت إلى أكثر من 176 عملية إبعاد.. كانت تشير إلى أن الاحتلال يمهد لفرض وقائع جديدة تغير الوضع القانوني والتاريخي للمسجد الأقصى بفرض التقسيم المكاني فيه، والمسجد الأقصى والتقسيم المكاني له، دخلا في المزاد الانتخابي للأحزاب الصهيونية وصراعها على الحكم، والصراع يحتدم بين أقطاب اليمين الصهيوني بشقيه الديني والعلماني من أجل كسب أكبر قدر ممكن من أصوات اليهود المتدينين، ولذلك شهدنا "تسونامي" من الاقتحامات غير المسبوقة للأقصى، وبما يشمل إدخال أحد أفراد الشرطة لزجاجة خمور إلى قلب المسجد الأقصى، وبما يمس بشعور المسلمين ومعتقدهم الديني، وكذلك قيام المتطرف من الليكود وعضو الكنيست عنه يهودا جليك، بأداء لطقوس زواجه في ساحات المسجد الأقصى.. ومن ثم تكثفت الحفريات للأنفاق أسفل المسجد الأقصى من أجل ربط تلك الأنفاق مع الأنفاق الموجودة في بلدة سلوان، ومن الواضح أن الاحتلال يخطط لإقامة مدينة يهودية أسفل المسجد الأقصى، سيعمل على افتتاحها بعد استكمال تلك الحفريات والأنفاق، تحت شعار 3000 آلاف عام من الوجود اليهودي في المدينة المقدسة.
معركة هوية باب الرحمة أخذت منحى وتطورا جديدين، هذا التطور ترجم من خلال قيام الاحتلال بعد صلاة مجلس الأوقاف الجديد بالصلاة في منطقة باب الرحمة، الأمر الذي عدته حكومة الاحتلال خطا أحمر وردت عليه بوضع قفل وسلسلة حديدية على باب الرحمة من الخارج، وأعقب ذلك سلسلة من الاتصالات السياسية شاركت فيها الحكومة الأردنية وأطراف أخرى بما في ذلك السلطة الفلسطينية، وكذلك جرى تحرك وتعبئة ميدانيين ودعوات وطنية ودينية وشبابية من أجل الالتفاف حول قضية الأقصى، ووقف عملية فرض التقسيم المكاني، حيث كسر مجموعة من الشبان المقدسيين القفل وأزالوا السلسلة الحديدية اللذين وضعهما الاحتلال، ومن ثم تراجع الاحتلال خطوة إلى الوراء، خوفاً من فقدان السيطرة على الأوضاع، وبالتالي تدحرج الوضع إلى حالة شبيهة، بما كانت عليه الأوضاع في معركة البوابات الإلكترونية، ويبدو أن هذا التراجع قد لعب الدور الميداني عاملاً حاسماً فيه، وكذلك الاتصالات السياسية لعبت دوراً في ذلك القرار، ولكن يبدو أن التراجع هاجسه الأساس، هو ما سيتبع ذلك من تطورات من شأنها، أن تلحق الضرر بالتحالف وعملية التطبيع العلنية والمشرعنة التي جرى بناؤها ما بين ما يسمى "الناتو" العربي – الأمريكي ودولة الاحتلال في مؤتمر وارسو، التي كشفت عن الحجم الهائل والواسع من العلاقات التطبيعية بين دولة الاحتلال، ودول النظام الرسمي العربي المنهارة، فأي تطور في قضية الأقصى وفرض (إسرائيل) التقسيم المكاني، قد يخلخل أسس تلك العلاقات التطبيعية أو ينسفها، حيث إن ذلك سيضع تلك الأنظمة المنهارة في مأزق جدّي مع الجماهير العربية. وهذا سيفشل صفقة القرن المشاركة فيها مع أمريكا و(إسرائيل)، لخلق حل إقليمي يتجاوز أصحاب القضية الأساسية الفلسطينيين، وبما يشطب ويصفي قضيتهم.
الأمور تصاعدت بشكل غير مسبوق، حيث تشكلت حالة شعبية ضاغطة على مجلس الأوقاف، بضرورة استعادة منطقة باب الرحمة، باعتباره جزءا من المسجد الأقصى، ويجب أن يستغل من الأوقاف الإسلامية، كمبنى يستخدم لأغراض دينية، وتعليمية، وأبحاث ودراسات وغيرها، وبأنه يجب ألا يكتفى بإزالة القفل والسلسلة الحديدية التي وضعتها شرطة الاحتلال، واستبدالها بقفل من الأوقاف الإسلامية، ولذلك شهدنا الثلاثاء الماضي قيام شبان ومصلين بأعمار متفاوتة بالصلاة في منطقة باب الرحمة صلاتي المغرب والعشاء، الأمر الذي شعر الاحتلال بأنه قد يفشل مشروعه بالكامل للتقسيم المكاني، ولذلك عمدت قوات وشرطة ومخابرات الاحتلال إلى اقتحام المسجد الأقصى، والاعتداء بشكل وحشي على المصلين والشبان المصلين، حيث اعتُقل عشرون منهم، ناهيك عن الكثير من الإصابات، التي استدعت نقل اثنين منهم للمشافي بسبب شدة الإصابات.
حالة الغليان الشعبي وصلت ذروتها يوم الجمعة الماضي حيث اندفعت الجماهير والقيادات الدينية والسياسية والوطنية للصلاة في باب الرحمة المغلق منذ ستة عشر عاماً، معلنة أن مصلى باب الرحمة وساحاته قد فتحت ولا تراجع عن ذلك، وعقب هذا الإنجاز المتحقق صعد الاحتلال من حربه على الرموز والشخصيات المقدسية، حيث طالت الاعتقالات بداية ثلاثة مواطنين مقدسيين، بحجة إزالتهم ونزعهم الشبك الحديدي على مصلى باب الرحمة، وليأخذ التصعيد الإسرائيلي منحى أخطر، واستهدافا مباشرا لمجلس الأوقاف الجديد، ورسائل إلى الأردن والسلطة الفلسطينية، حيث عمد الاحتلال إلى اعتقال رئيس مجلس الأوقاف الجديد الشيخ عبد العظيم سلهب ورئيس لجنة التعليم في الأقصى الشيخ ناجح بكيرات، والرسائل من عمليات الاعتقال واضحة للأردن والسلطة، أولها أن الاحتلال يعد مثل هذه التشكيلة للمجلس الجديد غير شرعية، لكونها تضم شخصيات فلسطينية ومقدسية محسوبة على السلطة وحركة فتح، والرسالة الأخرى للأردن تقول، إن الاحتلال هو صاحب السيادة على القدس والمقدسات، وبالتالي الوصاية الأردنية على الأقصى، لا تتيح للأردن أن يشكل مجلس أوقاف خارج الموافقة الإسرائيلية أو رضاها، وبأن هذه الوصاية يجب أن تزول بعد قرار ترامب نقل سفارته من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال.
بالمناسبة ثبت من خلال محاكمة أمين سر حركة فتح في البلدة القديمة الأخ ناصر قوس ورفيقيه علي عجاج وحسني الكيلاني، أن عملية الإغلاق لمصلى باب الرحمة وساحاته منذ ستة عشر عاماً غير قانونية ولا شرعية، فهناك قرار يتعلق فقط بإغلاق مؤقت للجنة التراث الإسلامي، وليس للمصلى أو الساحات التابعة لباب الرحمة، وهذا يعني أن عدم تعاطي الأوقاف مع المحاكم الإسرائيلية، لا يعني عدم معرفة حقيقة الأطماع والمخططات وقرارات المحاكم الصهيونية بحق الأقصى.
التطورات الحاصلة في المسجد الأقصى تؤشر على أن الاحتلال مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية ماضٍ في مشاريعه ومخططاته بحق الأقصى والقدس، وعمليات التراجع طابعها تكتيكي وليس إستراتيجيا، تمليه طبيعة العلاقات التطبيعية مع دول النظام الرسمي العربي، ولكن لن يتخلى عن مشروع التقسيم المكاني، والتصعيد الحاصل عبر عمليات الاعتقال للرموز الوطنية والدينية تؤشر على أن معركة باب الرحمة لن تنتهي، والمحتل لن يسلم بما تحقق من إنجاز بسهولة، بل سيواصل تصعيده وإجراءاته وممارساته بحق الأقصى والقدس، ولذلك المطلوب الحيطة والحذر والإبقاء على الجهوزية والوحدة والتكاتف لكل المقدسيين في سبيل المجابهة والتصدي لكل المشاريع الصهيونية التي تستهدف وجودهم وأرضهم ومقدساتهم وحقوقهم في المدينة.