ما تفتأ المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، والمراكز البحثية القريبة منها، تصدر بين حين وآخر المزيد من التقارير التي تتناول طبيعة المواجهة العسكرية القادمة، التي بدأ يخوضها الجيش في السنوات الماضية مع منظمات غير أقلَّ من دولة، تُوصف بأنها حروب عصابات، بعد تراجع التهديدات التقليدية من جيوش عربية نظامية.
هذا التطور دفع الجيش الإسرائيلي لإحداث انقلاب في نظرياته العسكرية؛ لمحاكاة التجارب الأميركية في فيتنام والعراق والصومال، والسوفيتية في أفغانستان، فالمنظمات التي تحاربها إسرائيل على حدودها تخوض حروب عصابات، حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والميليشيات الإيرانية في الجولان، بجانب مجموعات تابعة للقاعدة في سيناء.
دأبت العقيدة العسكرية الإسرائيلية على الاعتماد على ثلاثة أسس مركزية مهمَّة: الردع، والإنذار، والحسم، فالأساس الأول يهدف لردع الدول العربية عن الدخول في حرب مفتوحة مع إسرائيل، وفي حال لم ينجح هذا الأساس المركزي، يتمُّ استدعاء الأساس الثاني المتمثِّل بتوجيه إنذارات ساخنة سريعة لقيادة الدولة من الجيش الإسرائيلي من مغبَّة أي هجوم محتمل.
وفي حال اندلعت حرب مفاجئة فإن إسرائيل تعمل على نقل المعركة القتالية إلى ساحة العدوِّ، والوصول لمرحلة الحسم خلال وقت قصير، لا سيما أن إسرائيل تضع في اعتبارها محدودية عمقها الإستراتيجي.
شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا لهذا التهديد التقليدي، في ضوء عدد من العوامل والاعتبارات؛ من أهمِّها:
- خروج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل منذ كامب ديفيد، ودخولها في أتون صراعات داخلية عقب الربيع العربي، والإطاحة بالإخوان المسلمين، وتورط الجيش المصري في الخلاف السياسي القائم.
- انسحاب سوريا من سباق التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانغماس البلد في حرب أهلية طاحنة منذ ثماني سنوات، وتمزُّق الجيش إلى منشقِّين وموالين للنظام، وتحوُّله مع مرور الوقت إلى ما يشبه ميليشيا تحرس النظام، وتُؤَمِّن له البقاء أطول فترة زمنية ممكنة.
- زوال العراق كقوة عسكرية، لاسيما مع انفراط عقد الجيش وتصفيته، ودخول العامل الطائفي فيه بصورة سافرة؛ بحيث وقع فيه شرخ كبير ليس من المتوقع تجاوزه في السنوات القريبة القادمة.
بعد تلاشي التهديدات التقليدية العربية ضدَّ إسرائيل، ارتفعت أهمية نوعين من التهديدات الأخرى من تشكيلات عسكرية مسلحة غير نظامية متمثِّلة في: العمليات الاستشهادية، والقذائف الصاروخية، للحيلولة دون الدخول في مواجهة ميدانية مباشرة مع إسرائيل؛ وهما قد يشكِّلان "سلاح الضعيف"، وطريقا سهلة لاستنزاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
لكن هذه الأساليب وضعت تحديات خطيرة أمام القدرات العسكرية الإسرائيلية، ونجحت في تقييد قدراته، وظهرت إلى السطح أسئلة كبيرة تتعلَّق بمدى القدرة على ردع مسلح فلسطيني يُريد التضحية بنفسه في عملية هجومية.