بحاجة إلى جرأة في التشخيص وجرأة في وضع العلاج، ولا يعيبنا إن فهمنا التجربة الإسرائيلية ووقفنا عند أسباب نجاحها كنقطة انطلاق في التقييم والمراجعة، فالصمت لم يعد مبرراً في ظل حالة التدهور التي تمر بها القضية الفلسطينية، وهذا التدهور هو إحدى أهم نقاط تقدم دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ما سبب انتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني...؟ وهل نحن بحاجة لتقييم أم أننا نسير على البركة، ونمتلك خططا يومية لإدارة الأزمة والحفاظ على البقاء حتى لو كان ذلك البقاء اضطرارياً...؟ كيف نجحت (إسرائيل)؟ وما هي أهم أسباب نجاحها...؟ وهل نحن فعلاً نستطيع مجاراتها...؟ ما الحل...؟
أحد أهم أسباب انتكاستنا، أننا أقمنا سلطة تحت الاحتلال الإسرائيلي، هذا الاحتلال المدعوم من أغلب دول العالم سراً وعلانيةً، حتى بات الطريق إلى البيت الأبيض والرأسمالية العالمية يمر عبر تل أبيب، فيا ترى كيف سندير السلطة ضمن هذه البيئة..؟
أيضاً أحد أهم أسباب انتكاستنا تعدد مشاريعنا الوطنية، وولاءاتنا الحزبية والأيديولوجية، وارتباط بعضها بمشاريع إقليمية ودولية، حتى بات بعض الشخصيات يرتبط تعيينهم ضمن محاصصة مخابراتية خارجية، وبعض الأحزاب ترتهن قراراتها بأجندات ممولين خارجيين، ففقدنا القرار المستقل، وأصبح أكذوبة تمرر علينا عبر خطابات إعلامية هنا وهناك، ولأن جزءا من شعبنا يحفظ ولا يفهم وتقود عقوله وسائل إعلام حزبية، وتحكمه مصالحه وأهواؤه الشخصية، بات جزء منا أشبه بالقطيع الذي يقوده شخص هنا أو حزب هناك.
ولو تأملنا التجربة الإسرائيلية كيف تتعدد الأحزاب وتتغير الولاءات بما يخدم أهداف ومصالح دولة الاحتلال لفهمنا أن الانتماء للحزب ليس مقدسا، وأن المقدس هو الانتماء للوطن والفكرة، فعندما يحيد الحزب أو الشخص عن الوطن أو الفكرة ينبغي الانتقال فوراً من حزب لآخر أو حتى تشكيل أحزاب جديدة لو تعذر توحيد الحركة الوطنية كما حصل مع التجربة الجزائرية، ولكننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن تلك الثقافة الوحدوية.
أيضاً من سبب انتكاستنا بات كل طرف منا يقزّم ما يراه الطرف الآخر بأنه إنجاز، فأصبحت إنجازاتنا الحقيقية محل تشكيك وطعن، والمحصلة صناعة مجتمع تتآكل فيه معاني الوطنية تدريجياً، وأصبحنا جميعا نُصنَّف في نظر البعض فشلة، ومن هنا ترتقي دولة الاحتلال وتزداد تألقاً.
أيضاً من سبب انتكاستنا غياب جودة التعليم، صحيح أننا أكثر الشعوب تعلماً ولكننا بعيدون كل البعد عن جودة التعليم، وعن توجيه التعليم بما يخدم مشروعنا الوطني، فتدار المنح الدراسية دون دراسة حقيقية لطبيعة الاحتياج الحقيقي، عقولنا تهاجر لأنها تحارب، وشبابنا تبحر في مياه الغرب لأنها لم تجد مقومات الحياة.
سبب انتكاستنا أننا افتقدنا معاني الكرامة في الضفة المحتلة ولكننا وجدنا رغد العيش هناك، في حين افتقدنا رغد العيش في قطاع غزة ورسخنا الكرامة، ولم يلتفت قادتنا إلى ترسيخ معاني رغد العيش والكرامة سوياً في الأراضي الفلسطينية، بل على العكس نجد من يساهم في تدمير كل شيء جميل في وطننا الغالي فلسطين.
سبب انتكاستنا أن أرحامنا لا تنجب إلى القائد الأوحد، فغابت الديمقراطية الحقيقية عن مؤسساتنا فأصبح القائد من المهد إلى اللحد، إلا من رحم ربي.
سبب انتكاستنا أننا اعتقدنا أن المرأة لا تحكم انطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". والبعض بعلم أو دون علم يتعاطى مع الحديث الشريف الصحيح بأنه يمنع وصول المرأة لسدة الحكم. وهو ما دفعني ذلك للتساؤل: كيف نجحت 22 امرأة وصلن لسدة الحكم في العالم ونجحن، على سبيل المثال: أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية..؟ حتى باتت المرأة في الحركات الإسلامية والوطنية تخشى الوصول للحكم انطلاقاً من هذا الحديث ولم نفكر في مديح الله لملكة سبأ بلقيس في سورة سبأ.
سبب انتكاستنا أننا لم نتوقف عند سبب نجاح التجربة الإسرائيلية ونتأمل في التجربة منذ التأسيس وحتى يومنا هذا، وكيف نجح مبدأ تراكم القوة وصناعة الأحلاف وبناء الاقتصاد من خلال العلم والمعرفة والعمل؟
سبب انتكاستنا أننا لا نعرف ماذا نريد وكيف نحق ما نريد، فنتخبط في صناعة الوثائق وتغيير المواثيق، ونبدع في إقناع الغرب الذي صنع دولة الاحتلال لتكون لواءً عسكرياً متقدماً للدفاع عن مصالحها، وإفشال أي نهضة حضارية لدى شعوب المنطقة.
سبب انتكاستنا عندما غلبنا منطق الكوبون الغذائي والمساعدة المجانية والرجل المناسب في المكان غير المناسب، فأصبحت لدينا شريحة واسعة اتّكالية لا تعمل وتتبنى إستراتيجية البكائيات، فأصبح جزء من مجتمعنا عبئا علينا، بدل أن نحول هذا المجتمع لمجتمع صناعي منتج يصنع لقمته بيده فيتحرر من المال السياسي الذي يهبه العالم لنا لنكون رافعة لدولة الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر.
سبب انتكاستنا أننا نتقاتل على سلطة تحت الاحتلال، فقدمنا أكبر هدية للاحتلال هي انقسامنا، فأصبحت (إسرائيل) تبتز كل طرف على حدة، حتى بتنا أكثر ضعفاً ويأساً وإحباطاً.
أسباب انتكاستنا كثيرة، وكم نحن بحاجة لمجموعة من المفكرين أن يرصدوها ويقفوا عندها ويضعوا الخطط لمعالجتها، ولكن على قاعدة المعالجة الحقيقية وليس صناعة الورق وتكدسه في الأرشيف ليأكله العفن.
إن عوامل نجاح المشروع الصهيوني في إقامة دولة (إسرائيل) عديدة لعل أهمها وضوح الرؤية والإستراتيجية، وكذلك فشلنا نحن بسبب انتكاسة مشاريعنا الوطنية، يضاف إلى ذلك العوامل الخارجية في دعم دولة الاحتلال والحفاظ على تفوقها في جميع المجالات، واهتمام دولة الاحتلال بالتعليم وجودته وتوظيف ذلك لخدمة مشروعها، وأيضاً دعم الجاليات اليهودية في جميع الأماكن من أجل نجاح دولة (إسرائيل) ورفعتها وضمان تفوقها.
الخلاصة: لا شك أن توصيف انتكاستنا سهل جداً، ووضع الحلول ربما يكون أيضاً سهلاً ولكن الصعوبة تكمن في العقول التي تطبق هذه الحلول، من هنا ينبغي أن نبدأ بالعمل الجاد، وليكن ذلك دعوة للفصائل والمجتمع المدني وكل مناصري القضية الفلسطينية للبدء في العمل الجاد لوضع الحلول اللازمة لمعالجة ما يمكن علاجه قبل فوات الأوان.